النّظام الإيرانيّ في خطر

8

بقلم بديع يونس

«أساس ميديا»

أثبتت الأحداث الأخيرة المثبّت. تقامر إيران بشعبها وتقدِّمه ضحيّة على مذبح مصالحها واستمراريّة نظامها. لا تقرّ بالخسارة. هذه “المكابرة” التي أعادت فرض العقوبات عليها وأدّت بأقلّ من 24 ساعة إلى انهيار الريال الإيرانيّ لأدنى مستوياته (20% خلال ساعات) فيما حلّق التضخّم بأرقامه التي تجاوزت 40%، لا تختلف عن التضحية بأبناء الجنوب في “حرب إسناد” فاشلة في سبيل نظام إيرانيّ ورأسه.

لا ينفصل موضوع رفض تسليم السلاح للدولة اللبنانية ومواجهة القرار الرسميّ عن أجندة طهران إلى حين تقريش  تسليم سلاح “الحزب” على طاولة المفاوضات مع الغرب. حتّى ذلك الوقت، تضع إيران بيئة “الحزب” في مواجهة مع الشرعيّة واللبنانيّين عموماً، فيما تعلم تماماً أنّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو متعطّش لحرب جديدة بذريعة سلاح “الحزب”. لكنّ في ميزان طهران البلاد والعباد وقودٌ “مشروع” لمحرّك مصالحها واستمراريّة نظامها المتخبّط بعد إعادة فرض العقوبات.

التّخبّط الإيرانيّ والتباينات

في يوم واحد (السبت الفائت)، نقل التلفزيون الإيرانيّ ثلاثة تصريحات متباينة عن كلّ من الرئيس الإيرانيّ مسعود بزشكيان ووزير الخارجيّة عبّاس عراقجي وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي علي لاريجاني. عزا بزشكيان عدم الاستمرار بالدبلوماسيّة وعدم التجاوب مع الترويكا الأوروبية إلى أنّ أميركا تشترط على طهران تسليم كامل المخزون النوويّ، فاختارت طهران العقوبات على تقديم هذا التنازل.

في اليوم نفسه، صرّح عراقجي من نيويورك بأنّ تفعيل “السناب باك” غير شرعيّ (متطابقاً مع الموقف الروسيّ والصينيّ)، وأنّ تمنّع إيران عن التجاوب مع المساعي الدبلوماسيّة مردّه إلى أنّ “أميركا تشترط ضبط البرنامج الصاروخيّ الإيرانيّ كي لا يتعدّى مداه 500 كلم”. وهذا ما رفضته إيران.

في الأثناء، كان التلفزيون الرسميّ الإيراني يبثّ عن لاريجاني قوله إنّ “طهران كانت لتوافق على مفاوضات مباشرة مع واشنطن، لكنّ شروط الأخيرة تعجيزيّة”.

على صعيد آخر، صرّح عراقجي تارة بأنّ “مخزون اليورانيوم المخصّب مدفون تحت الأنقاض”، وتارة أخرى قال: “لم نتّفق مع الوكالة الدولية للطاقة الذرّية على الوصول إلى المخزون”، وتارة ثالثة “لا يمانع المسؤولون الإيرانيون الاتّفاق كما جرى عام 2015 وتسليم المخزون إلى روسيا”.

كأنّ الإيرانيّين يرمون صنّاراتهم في أكثر من اتّجاه، لكنّ هذه المرّة الأمور مختلفة بالنسبة للغرب: الثقة مفقودة وتجربة اتّفاق 2015 قطعت الجسور وأدّت لما أدّت إليه، وبات التصلّب الغربي عنوان المرحلة. لا مناصّ بعد اليوم من تسليم طهران بخساراتها، ومهما حاولت عبر رجالاتها في الداخل والخارج الترويج لانتصار وهميّ، لم تعد تنطلي على شعبها الفقير وأهالي الجنوب النازحين بروباغندا الانتصار المزعوم.

التّصلّب الأميركيّ – الأوروبيّ

من خلال هذه التباينات في مواقف الجهات الإيرانيّة المسؤولة، يتأكّد التصلّب الأميركي وسدّ باب التفاوض إلى حين قبول طهران بالشروط الأميركية والأوروبية. يؤكّد إصرار الترويكا على تفعيل آليّة الزناد التنسيق بين واشنطن وكلّ من فرنسا وبريطانيا وألمانيا. لكنّ الأبرز واللافت في المأزق الإيراني كان قبول طهران بالمفاوضات المباشرة مع “الشيطان الأكبر” الذي شارك بحرب الاثني عشر يوماً وتفاخر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أثناء وقوفه جنباً إلى جنب مع نتنياهو في البيت الأبيض بنتائجها.

التّخفيف من وطأة العقوبات

لا تكذّب الأرقام. سعر الصرف، حجم التضخّم، مستوى الفقر… تضع السياسة التوسّعية وصرف المليارات على الميليشيات والأنظمة الحليفة “الساقطة”، والعقوبات الأميركية والأوروبية بسبب مشروع نوويّ “مدمّر” كما صرّح ترامب، ومشروع صاروخيّ تهديديّ تتمسّك به طهران كورقة ضغط على شعبها قبل الآخرين، محور الممانعة وناسه في حالة مأساويّة، مهما حاول النظام التخفيف من وطأة ممارسته والعقوبات الأمميّة التي يصفها بأنّها “ليست أقسى وأشدّ من تلك الأميركيّة”. هذا ما قاله علي قاليباف في محاولة لإيهام الرأي العامّ الإيرانيّ بعدم جدوى هذه العقوبات، وأنّها غير فعّالة ويمكن لإيران أن تتخطّاها.

لكنّ الشعب الإيراني يشعر بوطأة هذه العقوبات الأمميّة التي كان مجلس الأمن بقراره 1929 لعام 2010 قد حدّدها، وهي أوسع بكثير من الأميركيّة وتشمل مجالات مختلفة.

النّظام الإيرانيّ في خطر حقيقيّ

يصرّ الأميركيون على شروط ثلاثة: وقف التخصيب وتسليم مخزون اليورانيوم والحدّ من مدى الصواريخ البالستية إلى ما دون 500 كلم. من دون الشروط الثلاثة، ستبدأ العقوبات بقضم نظام الملالي. لن يكون الوقت لمصلحة النظام مهما اختلفت وتشعّبت أساليب قمع التحرّكات.

بعيداً عن الشارع، كان أوّل الغيث تحرّك 30 حزباً وتجمّعاً للمعارضة يطالب بالتخلّي طوعاً عن البرنامج النووي وتسليم المخزون. في المقابل اعتبر المرشد علي خامنئي أنّ “تسليم المخزون هدر لما استُثمر خلال ثلاثة عقود”، إلّا أنّ الوقت سيضع في الميزان: النوويّ والبالستي في كفّة واستمراريّة النظام في كفّة ثانية.

في الأثناء، يماطل النظام قبل التسليم:

– داخليّاً عبر قرارات برلمانيّة ومواقف تصعيديّة حول نيّة “تصنيع القنبلة النوويّة” الذي لا يتعدّى تلويحاً يتيماً في زمن الخسائر.

– خارجيّاً عبر “الحزب” والحوثيّين. إذ تدفع طهران بالحوثيّ للاستمرار بإطلاق صواريخه ومسيَّراته واستهداف البواخر في كلّ من بحر عُمان والبحر الأحمر، وتحرّض “الحزب” في لبنان على التصلّب وإعلان عدم استعداده لتسليم السلاح.

المعركة الكربلائيّة

لا يمانع النظام الإيراني التضحية بشعبه على مذبح المصلحة والاستمراريّة، فهل اللبنانيّون والجنوبيّون تحديداً أغلى من شعبه؟

لم تخفِ طهران نواياها بلسان الأمين العامّ لـ”الحزب” نعيم قاسم الذي استحضر “الحرب الكربلائيّة”. لكن فاته أنّها ستكون “كربلاء الحزب” بحقّ نفسه وبيئته إذا قرّر مواجهة الدولة والشعب اللبناني لمصلحة طهران. حينها يتحوّل إلى ميليشيا انقلابيّة خارجة عن القانون، تقتل شعبها وناسها. “الحزب” الذي بنى شرعيّته على رواية الصراع الأبديّ والملحمة المفتوحة، يجد نفسه اليوم محاصَراً داخليّاً ومؤتمِراً إيرانيّاً بغير منطق أو فرصٍ بالفوز في هذه المعركة.

إذاً اتّضح أنّ السلاح بات للاستخدام الداخليّ. فـ”الحزب” غير المستعدّ لرمي إسرائيل بحجر على بوّابة فاطمة أو إطلاق صاروخ واحد من طراز قديم، يؤكّد انتهاء الوظيفة الإقليميّة لسلاحه ولدوره. لكن بهذا السلاح يسعى “الحزب” إلى إعادة فرض هيمنته على الداخل، مستغلّاً ما يوفّره الجيش وقوى الأمن من تغاضٍ أمنيّ بحجّة الحفاظ على السلم الأهليّ.

هيمنة “الحزب” الداخليّة هي أيضاً بأمر إيرانيّ كي يبقي لبنان وقيام دولته ورقة ضغط في أيّ مفاوضات مقبلة مع الأميركيين والأوروبيين المعنيّين بإقامة دولة القانون والمؤسّسات والجيش الواحد.

المبعوث الأميركي توم بارّاك الذي تحدّث عن “كثرة كلام الحكومة مقابل قلّة الأفعال”، ينتظر مع بلاده وأوروبا ودول الخليج ما سيرد في تقرير الجيش الشهريّ عن تقدّم حصر السلاح في جنوب الليطاني.

في المقلب الآخر، لا تنتظر إسرائيل هذا التقرير فيما تواصل اعتداءاتها واستهداف مخازن سلاح “الحزب” وقادته.

في هذه الأثناء تبقى الأنظار على لبنان. فإذا انتهت حرب غزّة فهل تستدير إسرائيل نحو لبنان ونحو طهران؟

حبّذا لو تُسحب الذريعة من نتنياهو وإلّا فإنّ الدفع الإيرانيّ بـ”الحزب” لإعادة بناء تنظيمه وبنيته العسكرية سيكون تضحية جديدة بخيرة أبناء الطائفة الكريمة والقتال بآخر شيعيّ حماية لمصالح طهران التي تضحّي بشعبها، والمؤكّد أنّ اللبنانيّين والجنوبيّين لن يكونوا أغلى من مواطنيها.

بديع يونس

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.