«الحقّ كلّو»… على الحنفيّة!

87

بقلم فوزي عساكر

رئيس تحرير مجلة «العالمية»

كان لِجارنا «درويش» خزّانٌ يروي منه أرضه وبيته، وكان يَملأه من مياه الأمطار وخيرات السماء. غير أنّ ذاك الخزّان كان مُهترئًا من الأسفل، وتتسرّب مياهُهُ هدرًا قبل انقضاء الصيف. وجارنا «درويش» هذا، يَئِسَ من تبديل الحنفيّة التي تُسرّبُ نقطةً نقطة، من دون جدوى. هذا لأنّ جارنا «درويش» لم يكن يعلم أنّ التسرّب من الحنفيّة لا يُفرغ الخزّان، إنّما الاهتراء من الأسفل. وبقي «درويش» على هذه الحال، حتى مات وقد أورث أولادَه العطش والعوز، معتقدًا أنّ «الحقّ كلّو» على الحنفيّة!

واليوم، وقد استفاقت دولتنا العزيزة من النوم، عمدت إلى تغيير الحنفيّة من جديد، كي تَمنع الـهدر الذي تسبّبَ به صدأ الضمائر، فأفسدَ القعرَ واهترأت خزينة الدولة وعطِشَ الفقراء. وراحت تَجوب بيوت الفقراء تُغرّمُهم ثَمن حنفيّة جديدة، وهدرُ الـمياه يصبّ في جيوب الـمسؤولين والـمحسوبين على الـمسؤولين.

أتعلم أيّها الشعب الساكت، أنّ الـهدر هو عند الـمنبع وليس عند الـمصبّ؟! أتعلم أيّها الشعب الساكت، أنّ مصاريف الوزارات والزعماء وزوجات الزعماء وأمن الزعماء، كلّها تَمنع وصول الخير إلى حنفيّتِكَ؟! والويل لك إن حصلَ تسرّب في حنفيّتِكَ، تُساقُ كمجرمٍ إلى العدالة الاستنسابية، وقد يَحكم عليك العدل أن تنامَ في الشارع بأمان، حفاظا على الزعماء الذين ينامون وسط الحراسة التامة، خوفًا منك… أنت الذي تدفع تكاليف حراسة الزعماء!

هؤلاء الخائفون، يكلّفوننا مصاريفَ أمنهم، حتى باتت الأجهزة الأمنية بِخدمة الزعماء والـمسؤولين، من حساب الشعب الذي يَخافون منه. رحمَ الله الخليفة عمر بن الخطّاب الذي حكمَ شعبًا وأنصفه، فما خاف منه، لأنّ العدالة أساس الأمان. يوم جاء رسول كسرى إلى الـمدينة الـمنوّرة لِمقابلة خليفة الـمسلمين عمر بن الخطّاب، وسأل عن قصره الفخم العظيم، فأرشدوه إلى بيته، الذي هو أدنـى من بيوت الفقراء، ووجده نائمًا في ملابس بسيطة في ظلّ شجرة قرب الباب، ومن دون حراسة. قال يومها رسول كسرى: «حكمْتَ فعدلْتَ فأمّنتَ فنِمْتَ يا عمر»!

أمّا عندنا أيّها القوم، فمَن حكمونا لم يعدلوا فما أمّنوا على حياتِهم ولم يستطيعوا أن يناموا هانئين، فسلبوا الأمان من بيوتنا لأمنهم في قصورهم، التي بنوها ففقّروا الشعب وعيّروه بالفقير!

وتُوهِمُنا الدولة أنّها تقوم بإصلاح الفساد، وهي تقضي على الضعفاء (غير الـمحميّين)، ولا تَجرؤ على الشركاء الكبار في الجريـمة! الدولة تبدأ بالإصلاح من تَحت، ولا تَجرؤ على مَن هم من فوق… وتقضي على مَن لا حِماية لَهم، «فالـحقّ كلّو» على الحنفيّة!

سأل الخليفة رجلاً مَجنونًا: «ما حُكم السرقة؟» فأجاب الـمجنون: «إذا كانت عن مهنة، تُقطَع يد السارق، أمّا إذا كانت عن جوع، فتُقطَع يد الـحاكم!»

رحمَ الله جارنا «درويش»، مات منذ سبعين سنةً، وما زال خزّانه مهترئًا، وسط صمت أولاده الذين استفادوا من هدر الـمياه، فباعوها إلى الـجيران… وعطِشوا! وما زال حتى اليوم… «الـحقّ كلّو» على الـحنفيّة!

فوزي عساكر

 

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.