مواقيت صوت الجرس الداخلي

16

بقلم محمد السماك

حتى وقت قصير كان العلماء يعتقدون أن الله خلق في جسم الإنسان جهازاً خاصاً لتنظيم دورات حياته اليومية من النوم والصحو، ومن الشعور بالجوع والعطش، وحتى من التعب والراحة أو من السعادة والشقاء.. وأن هذا الجهاز موجود في القسم الأسفل من الدماغ، وأنه يتأثر على نحو مباشر بشروق الشمس وغروبها، لتوجيه تعليماته إلى الأعضاء الداخلية في الجسم البشري.

لكن في السنوات القليلة الماضية اكتشف العلماء ما قد يكون أهم من ذلك، فقد تبيّن لهم أنه لا يوجد جهاز واحد يتولى تنظيم توقيت أداء كل هذه الوظائف، ولكن الله خلق في جسم الإنسان أجهزةَ توقيت عديدة أخرى، بحيث إن كل عضو من أعضاء الجسم يخضع لتعليمات إيحائية تصدر عن جهاز تنبيهي داخلي خاص مرتبط به، يتولى مراقبة إدارة العمل اليومي لهذا العضو.

فخلال النهار مثلاً يعمل عضو البنكرياس على زيادة إنتاجه من «الأنسولين»، وهو السائل الضروري للتعامل مع السكر في الدم ولتخفيض نسبته. لكن عندما يحلّ الظلام يتوقف هذا العضو عن العمل. من هنا فإن الطعام الليلي المتأخر يتجاوز بإفرازاته من الدهون والسكريات توقيت عمل ساعة التنبيه الطبيعية، التي تحفّز الأعضاء المعنية في الجسم لإفراز السوائل الامتصاصية لهذه المواد، ومن ثم لتحويلها إلى مواد عضوية أخرى للتخلص منها.

 وكما أن هناك «ساعة» تبرمج عمل الكبد، هناك ساعة أخرى تبرمج عمل الأمعاء في إفراز المواد اللازمة للهضم والامتصاص (المغذيات) والتخلص من الفضلات.

وخلق الله في جسم الإنسان تريليونات (آلاف آلاف الملايين) من أنواع البكتيريا التي تلعب دوراً رئيسياً في عملية هضم الطعام وامتصاصه، بحيث إن الإنسان لا يستطيع العيش من دون هذه التريليونات من الحشرات المجهرية الصغيرة التي تعيش فيه ومعه. وقد شاء الخالق سبحانه وتعالى أن يجعل منها جزءاً منَّا ومن كل عضو من أعضائنا الداخلية، حتى إنها مبرمجة في أساس معادلة وجود كل إنسان وكل كائن حيّ.

 خلق الله الإنسان «في أحسن تقويم»، غير أن عدم التزام الإنسان بهذا التقويم الأحسن (الإدارة الداخلية الدقيقة لعمل الأعضاء الداخلية وتوقيت أداء هذا العمل) يعرِّضه لبعض ما يعانيه من أمراض ومن انتكاسات صحية. ويعرف الإنسان ما يتعرض له عندما يسافر بالطائرة إلى مناطق بعيدة، ويعرف المعاناة التي يمرّ بها حتى يعيد الجسم التكيفَ مع التوقيت الجديد لجهة النوم والطعام وحتى العمل. وهذا ما يحدث للأعضاء الداخلية لجسم الإنسان عندما تجد أنها مدعوة للعمل في الوقت الذي تستعد فيه للراحة.

في كتاب طبي جديد لأستاذ الطب في معهد «سالك» الطبي الأميركي، عنوانه «شيفرة التداول»، يروي المؤلف «ساتشين باندا» قصةَ الصراع بين النظام الذي خلقه الله فينا ولنا، وبين النظام الذي نتّبعه دون مراعاة للتوقيت المبرمج لعمل جهاز الهضم، الذي خلقه الله في الأساس وأحسن خلقه.

 عندما يحلّ الليل يوجه غياب ضوء الشمس مؤشرات إلى عقل الإنسان لإنتاج مادة «الميلاتونين»، وهي المادة التي تؤهله للنوم. لكن عندما يبادر الإنسان في هذا الوقت المتأخر إلى تناول الطعام الدسم، فإنه يوجّه بذلك –عبر الطعام- رسائل معاكسة لتلك التي تكون الساعة البيولوجية في الجسم قد بدأت بإرسالها، فتوهم الجسم، وهو في وقت متأخر من الليل، بأن النهار لا يزال مستمراً. هذا التناقض في التعليمات بين الإيحاء الذي تطلقه ساعات التوقيت الداخلية التي خلقها الله فينا ولنا، وبين الرسائل التي تثيرها الشهوة لتناول الطعام الدسم في وقت متأخر من الليل، يتجسّد في انعكاسات صحية وأمراض عديدة، مثل التخمة وارتفاع ضغط الدم وارتفاع مستوى السكر.. إلخ.

لا تعني النصيحة الطبية بتجنّب الطعام المتأخر ليلاً التخلي عن العشاء، ولكنها تعني تجنّب الطعام الدسم في وقت متأخر من المساء وتقديم موعد العشاء إلى أول الليل.

فالإنسان مدعو إلى الاستماع إلى صوت الجرس الداخلي الذي خلقه الله سبحانه وتعالى فينا ولنا. وهو منبّه يحدد لنا مواقيت عمل أجهزتنا الداخلية ومواقيت توقفها عن العمل للراحة.

محمد السماك

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.