بين تصويت المغتربين وعدم اقتراع المقيمين

46

بقلم دافيد عيسى
لا ينبغي أن ينحصر النقاش في لبنان بكيفية تصويت المغتربين، أو بعدد مقاعدهم ودوائرهم، وكأنّ هذه هي المعضلة الوحيدة في الحياة الديمقراطية.
فالنقاش الحقيقي يجب أن يتجاوز هذا العنوان، وأن يتركّز على المشكلة الأعمق والأكثر تجاهلًا: عزوف المقيمين عن المشاركة في العملية الانتخابية.
فنِسَب الاقتراع في معظم الدورات الانتخابية السابقة، منذ أول انتخابات بعد اتفاق الطائف عام 1992 وحتى آخر انتخابات عام 2022، لم تتجاوز ما بين 30 و45 في المئة.
وفيما تنشغل القوى والأحزاب السياسية بما يُسمّى «تصويت المغتربين»، تمرّ أرقام الداخل مرور الكرام، بصمتٍ مريب.
في كل استحقاق انتخابي، تبقى نسبة المقترعين المقيمين متدنّية، من دون أن يُقرَع جرس إنذار، أو تُفتح مراجعة جدّية لأسباب هذا الانكفاء، وكأنّ غياب شريحة واسعة من الناخبين أصبح تفصيلًا لا يستحق التوقّف عنده.
هذا الصمت ليس تفصيلًا تقنيًا، ولا نتيجة كسلٍ شعبي عابر، بل هو مؤشر خطير على أزمة ثقة عميقة بين المواطن وعدد من هذه القوى والأحزاب.
كما يعكس خللًا بنيويًا يُعاد إنتاجه في كل دورة انتخابية، أزمة تستفيد منها القوى ذاتها، نتيجة عزوف من فقدوا الثقة بالسياسة وأهلها، بعدما تلاشى إيمانهم بالوعود الانتخابية التي تتبخّر فور انتهاء كل عملية اقتراع.
وسط هذا الواقع، يثير الصراخ المرتفع حول تصويت المغتربين سؤالًا بديهيًا لم يُطرح بجدّية حتى الآن:
لماذا يبقى تصويت المقيمين متدنّيًا؟
هل حاول أحد أن يفهم حجم الإحباط، واليأس، وانعدام الثقة؟
أم أنّ بعض القوى السياسية مرتاحة أصلًا لعزوف الناس، لأنّ القلّة المنظَّمة أسهل في التوجيه والتحكّم؟
والسؤال الأهم يبقى:
لو اقترع الذين بقوا في منازلهم، أي ما بين 55 و60 في المئة من الناخبين، ألن يتغيّر مسار الانتخابات برمّتها؟
ألن تختلط الأوراق؟
ألن تُفرض معادلات جديدة؟
ألن تُكسَر احتكارات سياسية بُنيت على ضعف المشاركة، لا على قوّة التمثيل؟
لا شكّ أنّ للمغتربين حقًا مقدّسًا في التصويت، ولا نقاش في ذلك.
لكن تحويل هذا الحق إلى المعركة الوحيدة، وتضخيمه إلى حدّ التعمية على أصل المشكلة، ليس بريئًا، ولا صحيًا، ولا ديمقراطيًا.
والمفارقة أنّ عدد غير المقترعين في الداخل يتجاوز، مرّات ومرّات، عدد أصوات المغتربين، ومع ذلك يُدار النقاش وكأنّ المشكلة الوحيدة تكمن في أصوات الخارج، لا في هذا الصمت الانتخابي الواسع داخل لبنان.
فالديمقراطية لا تُقاس فقط بعدد المسجّلين في الخارج، بل بحجم مشاركة من يعيشون يوميًا نتائج السياسات الخاطئة، ويدفعون ثمن الانهيار المالي والاقتصادي والاجتماعي والصحي من أعمارهم وكرامتهم.
قبل أن نختلف على صوت المغترب، فلنسأل: لماذا لا يشارك المقيم؟
وقبل أن نتقاذف الاتهامات حول دوائر الخارج، فلنواجه حقيقة أنّ الداخل خُذل… أو أُحبط عمدًا.
المعركة الحقيقية ليست بين مقيم ومغترب، بل بين من يريد شعبًا حاضرًا وفاعلًا، ومن يراهن على التعب، واللامبالاة، وانخفاض نسب الاقتراع، لإعادة إنتاج السلطة نفسها.
دعوا المقيمين يصوّتون أولًا.
أعيدوا إليهم الثقة، والأمل، والشعور بأنّ صوتهم لا يزال يعني شيئًا.
عندها فقط، يصبح النقاش حول تصويت المغتربين نقاشًا صحيًا، لا ستارًا يُخفى خلفه جوهر الأزمة.
دافيد عيسى

التعليقات مغلقة، ولكن تركبكس وبينغبكس مفتوحة.