بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
لا يزال صدى إنشاد “آيا إيران” في ليلة عاشوراء، على وقع لحن عسكري يحاكي موسيقى الحروب، في حضور مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، موضع أخذ وردّ وبحث، ليس فقط في مختلف الأوساط ووسائل الإعلام الإيرانية، بل في مراكز القرار والأبحاث الدولية، لما يحمله من معانٍ ورموز ومؤشّرات تدلّ على نهج إيراني جديد.
في ليلة العاشر من محرّم، في حسينيّة الإمام الخميني، التي حضرها بشكل مفاجئ المرشد الأعلى، بعد غياب دام 23 يوماً منذ انطلاقة المواجهة الإيرانية الإسرائيلية، تراجعت صرخة “يا حسين” وحلّت محلّها صرخة “آيا إيران”، وطغت على الإنشاد الكربلائيّ والعاشورائيّ موسيقى الأناشيد العسكرية التي تعود للحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى حرب الثمانينيّات مع صدّام حسين، والتي تتّسم بالفخر الوطني، لا بالحزن الحسينيّ. وأكّد المنشد الحكوميّ الإيراني محمود كريمي الذي أدّى نشيد “آيا إيران” أنّ “المرشد نفسه هو من طلب ذلك”.
النّفاق بعينه
“آيا إيران”، نشيد وطني شهير، كتبه تورج نكبهان ولحّنه محمد سَرير وغنّاه محمد نوري، وقد حظي بشعبية في ذروة الثورة الإسلامية في الثمانينيّات وترك بصمة قويّة في الذاكرة الجماعية الإيرانية. لكنّه غاب عن المشهد الثقافي والسياسي العامّ كما غاب اسم “إيران” كلّياً عن النشيد الوطني للجمهورية الإسلامية التي لطالما تعاملت مع مفاهيم الوطنيّة بتحفّظ وحدّت منها، لا بل قمعتها في كثير من الأحيان. ثمّ فجأة استعان النظام بالرموز القومية في ذروة التصعيد العسكري مع إسرائيل. واستغربت عائلة الشاعر نكبهان الذي أُقصي بعد الثورة، في بيان نشرته على “إنستاغرام”، كيف أنّ “النظام الذي أمضى عقوداً يصف هذا النشيد بالكفر والطغيان، واعتبر الشاعر من رموز النظام البائد، وحذف اسمه من الكتب والإعلام، يحوّل اليوم النشيد نفسه إلى “مرثيّة” تُؤدّى أمام خامنئي”. وتساءلت: “ماذا جرى؟ هل تذكّرتم حبّ الوطن فجأة؟ أم هي عادتكم الدائمة: كلّما شعرتُم بالخطر، تمسّكتم بأيّ رمز أو شعار؟ هذا هو النفاق بعينه”. وجادل متشكّكون إيرانيون آخرون في أنّ هذه الإيماءات انتهازيّة وحسب.
في المقابل وجدت الصحف المؤيّدة للنظام في هذا التطوّر “مشهداً فريداً من توطيد التضامن الوطني على خلفيّة قراءة نشيد “آيا إيران” بطلب من قائد الثورة”. واعتبرت صحيفة “فرهيختكان” أنّ ما حصل في حسينيّة الإمام الخميني كان بمنزلة مرآة كاملة الطول عكست التماهي بين الإسلام وإيران. وعلّق محمد علي أبطحي، الناشط الإصلاحي ورئيس مكتب الرئيس الأسبق محمد خاتمي، على أداء النشيد أمام خامنئي عبر منصّة “إكس” قائلاً: “عاد المرشد.. وعاد معه اسم إيران”.
تنامي النّزعة القوميّة الإيرانيّة
عزّزت الهجمات الإسرائيلية والأميركية النزعة القومية أو الوطنية الإيرانية. وبدلاً من تأليب الإيرانيين على نظامهم أدّت إلى نتائج عكسية، فمع استهداف الغارات الجوّية البنى التحتية والمرافق الاقتصادية والحيويّة الإيرانية وسقوط العديد من القتلى المدنيين، شعرت شرائح وفئات إيرانية واسعة وغير موالية للنظام بالضرورة، أنّ الهجمات لا تستهدف النظام الحاكم فقط، بل الأمّة الإيرانية نفسها، ولذلك هي حرب على إيران ذاتها وليس على الجمهورية الإسلامية. تضخّمت هذه المشاعر بعدما طالب الرئيس الأميركي دونالد ترامب والقيادة الإسرائيلية سكّان طهران بإخلائها. وفي هذا السياق نقلت صحيفة “فايننشيل تايمز” عن مواطنة إيرانية قولها: “أنا لست من مؤيّدي الجمهورية الإسلامية، لكن حان الوقت الآن لإظهار التضامن مع إيران. يقول ترامب ونتنياهو “أخلوا”، كما لو كانوا يهتمّون بصحّتنا. كيف يمكن لمدينة يبلغ عدد سكّانها عشرة ملايين نسمة أن تُخلى؟ أنا وزوجي لن نمهّد الطريق لهم. دعهم يقتلونا”.
استحضار أساطير آرش ورستم
ولاقى الردّ الصاروخي الإيراني على قلب إسرائيل استحساناً وشعوراً بالعزّة عبّر عنه كتّاب وفنّانون وشعراء لا يُعرفون بولائهم للنظام. وندّدت معظم حركات المعارضة في الداخل وشخصيّات سياسية وسجناء سياسيّون سابقون بالعدوان الإسرائيلي، ووصفوا الصراع بأنّه حرب وطنية إيرانية ونضال وطني يتجاوز السياسة. واستحضرت وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة الأساطير الفارسية التي سبقت الإسلام والتي تروي حكايات البطولة، وشبّهت قادة الحرس الثوري الذين قضوا اغتيالاً بشخصيّات أسطوريّة مثل آرش الرامي ورستم.
وشبّه معلّقون إيرانيون الموقف العامّ بأنّه شبيه بما حصل في الاتّحاد السوفيتي السابق عندما تعرّض لغزو ألمانيا النازية ودفع الروس إلى تناسي خلافاتهم الأيديولوجيّة والسياسية والوقوف خلف القيادة السوفيتية.
وساهمت هذه المواقف في تخفيف الضغوط على الجمهورية الإسلامية، ودفعت بالقيادة إلى تعزيز النزعة القومية والوطنية لحماية النظام الذي صار شغله الشاغل حماية نفسه من السقوط والحفاظ على سلطته من التآكل.
الأيديولوجية الإسلاميّة أداة التّغلغل الإقليميّ
في الواقع، النظام الإيراني الذي قدّم نفسه نظاماً إسلاميّاً لم يتخلّ لحظة عن قوميّته وتمسّكه بها، لكنّه كان يقدّم وجهاً من وجوهه الأيديولوجيّة ويخفي الآخر تبعاً للضرورات ومصالحه الكبرى. ولأنّ الأيديولوجية القومية الفارسية أو الإيرانية لم تكن قادرة على اختراق المنطقة عموماً، والعالم العربي خصوصاً، لا بل تقف عائقاً أمام ذلك نظراً لتعارضها مع القومية العربية، ارتدت الأيديولوجية الإسلامية بهدف تمويه البعد القومي التوسّعي في مشروعها الإقليمي. هكذا حاولت التغلغل في المنطقة العربية عبر بوّابة نصرة فلسطين والذود عن قضيّتها. ومع اشتداد التنافس الإقليمي بينها وبين مشاريع أخرى، ومنها تركيا، لم يتوانَ الجانبان في هذا السبيل عن تسخين البؤر الطائفية والمذهبية وإطلاق جماعات وميليشيات سنّية وشيعيّة تعمل أدواتٍ لهما. وتدخّلت تركيا مرّة باسم فلسطين ومرّة باسم محاربة الإرهاب تبعاً للظروف السياسية. أمّا إيران فصاغت توسّعها الإقليمي، تارة، تحت غطاء “محور المقاومة”، الذي يعادي إسرائيل وأميركا، وتارة أخرى تحت عنوان نصرة الشعب الفلسطيني.
نذير شؤم لمحور المقاومة
بعد حرب الأيّام الاثني عشر، وما سبقها من حرب إبادة في غزّة وتدمير لقدرات حركة “حماس”، والعدوان على لبنان الذي خلّف جروحاً عميقة في بنيان “الحزب”، وانهيار نظام آل الأسد الحليف في سوريا، وتضعضع “الحشد الشعبي” في العراق، بات معيار النصر والهزيمة مرتبطاً بالمشروع القومي للنظام والدفاع عن بقائه واستمراره. وبات رفع الراية القومية والتماسك الداخلي أقوى من الأيديولوجية الدينية، التي كانت في الأصل أداة عابرة للحدود، استُخدمت لتبرير توسيع النفوذ الإيراني في مجتمعات المنطقة.
عليه، ستواجه النظامَ الإيراني أسئلةٌ كثيرة في الداخل: هل يمكن مواصلة صرف المليارات على الميليشيات في الخارج التي لم تمنع وصول الهجمات الإسرائيلية إلى العمق الإيراني، لا بل ساهمت في جرّ طهران إلى معركة ضروس لا تريدها وفي توقيت لا تريده أيضاً؟ أم يجب أن تُستثمر هذه الأموال في بناء الدولة الوطنية التي أُنهكت اقتصادياً وماليّاً واجتماعياً وسياسياً وإعطاء الأولوية للداخل واستنهاض الشعور القومي مجدّداً ليكون ورقة حماية أخيرة للنظام؟
في أيّ حال، لن يؤدّي تغيير الأيديولوجية أو التخلّي عنها تلقائيّاً إلى تغييرٍ في السلوك السياسي. وقد تتسامح الحكومة مع مزيد من الحرّيات الاجتماعية وتحدّ من التشدّد الديني وترخي قيود الحجاب والسلوك. وتُصلح العلاقات مع الشخصيّات المعتدلة المهمّشة، لإبراز الوحدة الوطنية. لكنّها قد تصير أكثر قمعاً وتشدّداً بعد الاختراقات الأمنيّة الكبيرة التي كشفتها حرب الـ 12 يوماً. وربّما أكثر ما يمكن أن يترتّب على هذا النهج النوعي إذا ما تكرّس، هو أن يتحوّل إعلاء نشيد “آيا إيران” القومي في سماء طهران نذير شؤم لـ”محور المقاومة” وأولى علامات طيّ صفحته إيرانيّاً.
أمين قمورية