بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
احتفلت إيران في 18 تشرين الأوّل الجاري بانتهاء الصلاحيّة القانونيّة لاتّفاق فيينّا النووي والقرار الأمميّ المصاحب رقم 2231. انتهت فترة العشر سنوات، وباتت إيران، وفق تصريحات وزير الخارجيّة عبّاس عراقجي، متحرّرة من كلّ القيود التي يفرضها الاتّفاق والقرار على البرنامج النوويّ. تعلن طهران، على الرغم من إبداء عراقجي الاستعداد للتفاوض على “اتّفاق عادل”، أنّها ماضية في تحقيق أهدافها النوويّة وفق ما تتيحه العضويّة في معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النوويّة، وما تنظّمه تشريعات البرلمان الإيرانيّ في التعامل المشروط مع الوكالة الدوليّة للطاقة الذرّية.
تقدّم إيران نزاعها مع الدول الغربيّة بصفته نزاعاً قانونيّاً تتمّ مقاربته بالحجج والدفوع والأدلّة والمرافعات. فحين ذهبت الترويكا الأوروبيّة لتفعيل آليّة الزناد لإعادة العقوبات الأمميّة ضدّ إيران إلى ما كانت عليه قبل الاتّفاق المبرم عام 2015، قالت إيران، وهذه المرّة معها روسيا والصين، إنّ ذلك “ليس قانونيّاً”، ثمّ استعانت بـ121 دولة، كانت مجتمعة في مؤتمر كامبالا لحركة عدم الانحياز، لتأكيد أنّ أغلبيّة دوليّة لا تؤيّد آليّة الزناد وتدعم واقع انتهاء القرار 2231 في 18 تشرين الأوّل.
نزاع سياسيّ لا قانونيّ
الحال أنّ هناك تنافساً دائماً بين ما هو قانونيّ وما هو سياسيّ. فإذا كانت القرارات الأمميّة، وما أكثرها بالنسبة للقضيّة الفلسطينيّة مثلاً، نصوصاً قانونيّة حظيت بشرعيّة دوليّة، فإنّ السياسة وحدها هي التي تقرّر التقيّد بالقانون الدوليّ أو إجهاضه وانتهاك مفاعيله. ولئن فعّلت فرنسا وبريطانيا وألمانيا الآليّة التي تعيد الوضع القانونيّ ضدّ إيران إلى ما كان عليه قبل عام 2015، فإنّ عدم إعادة فرض تلك العقوبات (كما هو حال دول عدم الانحياز أو غيرها) أو العمل بها هو قرار سياديّ سياسيّ سيختلف بين بلد وآخر وفق اصطفافه السياسيّ وموقفه من إيران.
ينسحب الأمر نفسه على واقع الأزمة الدوليّة مع إيران. تدحرجت بشكل دراماتيكي إلى درجة شنّ إسرائيل، بضوء أخضر ومشاركة أميركيّة، حرب الأيّام الـ12 في حزيران الماضي، مع استمرار التلويح بالخيار العسكريّ من قبل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب المتضمّن هذه المرّة إسقاط نظام الجمهوريّة الإسلاميّة. فالنزاع مع إيران هو سياسيّ وجيوسياسيّ واستلزم اللجوء إلى اتّفاق عام 2015 وأدوات قانونيّة. فحين تبرع طهران في التسويق لِما هو قانونيّ، فإنّها تتجاهل على نحو جلف أنّ الصراع سياسيّ، ولن ينتهي إلّا باتّفاق وإرادات سياسيّة.
تعرف إيران المنتشية بإعلان انتهاء صلاحيّة اتّفاق فيينا أنّ هذا ليس خبراً مطمئناً. فخروج البرنامج النووي عن القيود والمراقبة الدوليّة، وإعلان طهران أنّ الالتزامات مع “الوكالة الدوليّة” يقرّرها مجلس الشورى، لا يتركان للعالم إلّا الأدوات الغليظة للتعامل مع ما بات يظهره البرنامج النوويّ من أخطار لم تكن بمستوى ما كانت عليه قبل 10 سنوات. ثمّ إنّ إيران، التي تقول هذه الأيّام إنّها تخلّصت من قيود الاتّفاق، أوقفت الالتزام بتلك القيود منذ أن أخرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب بلاده من “أسوأ اتّفاق في التاريخ”، حسب قوله، عام 2018، وهو ما استدرج تدخّل قاذفات B2 الأميركيّة العملاقة لقصف مفاعلات نطنز وفوردو وأصفهان في حزيران الماضي.
تحدّ القيود من تخصيب اليورانيوم إلى نسبة 3.67 في المئة في المستوى الأقصى، ويعتبرها الاتّفاق كافيةً لأنشطة نوويّة للأغراض المدنيّة. اخترقت طهران ذلك القيد ورفعت تلك النسبة إلى مستوى 20 في المئة ثمّ لاحقاً وبشكل معلن إلى 60 في المئة، فيما وجد المفتّشون الدوليّون آثاراً للتخصيب، عجزت طهران عن إعطاء تفسير مقنع لها، وصلت إلى حوالي 87.4 في المئة. يعرف العالم أنّ صناعة القنبلة النوويّة تحتاج إلى نسبة 90 في المئة، ولذلك باتت إيران رسميّاً على مشارف إنتاج القنبلة، حتّى لو عطّلت حرب حزيران بعض إيقاعات الإنتاج وسلاسله.
إسقاط فقهيّ لفتوى المرشد؟
لن تستطيع إيران أن تهرب عبر الجدل القانونيّ من استحقاقات سياسيّة باتت ضاغطة وداهمة. والظاهر أنّ عراقجي، الذي عبّر عن جهوزيّة للتفاوض، حاول أن يوحي لواشنطن وحلفائها الغربيّين (مستقوياً بمواقف الصين وروسيا ودول عدم الانحياز) بأنّ من الأفضل التوصّل إلى اتّفاق على “مقاس” إيران، مهوّلاً بما يعنيه إفلات برنامجها النوويّ من أيّ “عقال” قانونيّ. في المقابل، اشتدّت شروط أيّ اتّفاق جديد بعد هجمات حزيران، ولا توحي موازين قوى ما بعد تلك الحرب، من غزّة إلى طهران، بإمكان تليين تلك الشروط.
باتت إيران تقبل بالتخلّي عن تخصيب اليورانيوم بالمستويات “المتهوّرة” والعودة إلى تلك “المقبولة” التي حدّدها اتّفاق فيينا بـ3.67 في المئة. بالمقابل، باتت شروط واشنطن تقوم على حرمان إيران من أيّ تخصيب لليورانيوم، ووضع قيود على برنامجها للصواريخ البالستيّة، ووقف أنشطتها المزعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، بما في ذلك دعمها للميليشيات التابعة لها في بلدان المنطقة. ومن يتأمّل تلك الشروط لا يجد داخلها أيّ عبق لنزاع قانونيّ، بل مواجهة جيوسياسيّة تحدّد موقع إيران المقبل ودورها في الشرق الأوسط.
يأتي إعلان إيران انتهاء صلاحيّة “فيينا” في ظلّ تواتر مواقف وتصريحات ونظريّات تصدر عن منابر طهران تتحدّث عن تغيُّر قد يطرأ على العقيدة النوويّة. لم يُخفِ وزير الدفاع الأسبق علي شمخاني قبل أيّام الإعراب عن “ندم استراتيجيّ” جرّاء عدم الدفع بالبرنامج النوويّ إلى نهايات عسكريّة. بات بقاء النظام على المحكّ ومن أهداف أيّ حرب مقبلة وفق توعّد ترامب نفسه. قد توحي طهران بإعلان نهاية “فيينا” أنّها قد تذهب إلى إسقاط فقهيّ لفتوى المرشد وتأويلها لصناعة القنبلة، حتّى لو كانت ملعونة من رجس الشيطان.
محمد قواص