بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
اخترق القصفُ الإسرائيلي للعاصمة القطريّة خطوطاً حمراً. سبق لإسرائيل أن استهدفت بيروت، اجتاحت لبنان حتّى عاصمته عام 1982، وتمدّدت أخيراً في جنوب سوريا وقصفت أهدافاً قرب دمشق وفيها. قادت حرب “7 أكتوبر” إسرائيل، باسم حقّ الدفاع عن النفس وبرعاية أميركية مفرطة، إلى ضرب طهران وصنعاء وبيروت وضاحيتها. أصابت نيران القصف مراكز قرار، لكنّ الأمر لم يرقَ إلى مستوى الهواجس التي انتابت المنطقة بعد قصف الدوحة.
يمكن استنتاج ذلك التوجّس من مضمون النصوص التي صدرت من العواصم العربية مستنكرةً الحدث، مُدينةً له. ويمكن تهيّب الأمر من خلال المواقف الشاجبة الشاملة التي صدرت عن عواصم الدنيا، محذّرةً منبّهةً من خطر اتّساع حرب غزّة واختراقها خطوط خرائط الشرق الأوسط برمّته. ولئن يصعب بمنطق العقل تصوّر تلك السيناريوهات المتشائمة، يخرج ما تشهده المنطقة منذ “طوفان الأقصى” عن الحسابات التقليدية والتقديرات الأكاديميّة الوازنة.
الأبعاد التّوراتيّة
طرح الحدث أسئلة بشأن المدى الذي تطاله ضربات إسرائيل. تأخذ الحرب أبعاداً توراتيّة تنهل من دعم الإنجيليّين الذين يشكّلون قاعدة شعبيّة واسعة لدونالد ترامب والترامبيّة وعقيدة الـ”MAGA” في الولايات المتّحدة. انكفأت “الدولة العميقة” في واشنطن عن أبجديّات المصالح التي تسيِّر توجّهات السياسة الخارجية. باتت الأيديولوجية في واشنطن تجعل من الدفاع عن إسرائيل واجباً “مقدّساً” يتنفّس عبقه من الأناجيل.
وفق البعد اللاهوتيّ، لم يعُد احتمال ضرب إسرائيل للقاهرة أو أنقرة أو أيّ عاصمة خليجيّة أمراً خارج الحسابات. على الرغم من بيان البيت الأبيض، وسعي الإدارة إلى النأي بنفسها عن “الإثم” المرتكَب ضدّ الدوحة، ووصف ترامب لقطر بأنّها “حليف رائع”، وارتجال استرضائها باتّفاق دفاعيّ لن يرقى إلى مستوى معاهدة تحظى بموافقة ثلثَي الكونغرس، يكشف ما صدر عن منابر الإدارة إمعاناً في إنتاج الذرائع وعوامل التفهّم لإسرائيل وحكومتها المتطرّفة ورئيسها بنيامين نتنياهو بالذات.
ما العمل؟
أمام سؤال الأمن القومي الاستراتيجيّ، تقف عواصم المنطقة حائرة، وتسعى إلى الردّ على السؤال السرمديّ: “ما العمل؟”.
لم تكن فكرة “الدفاع المشترك” ناجعة في حروب الماضي، وهي أضعف في الزمن الحاضر. تُذكّرنا وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيّام بكلمات للرئيس المصري الراحل حسني مبارك يشير فيها إلى فقدان البلدان العربية “الهيبة” بعد اضطرارها إلى الاستعانة بالأميركيّين لردّ الاحتلال العراقي للكويت. في الأمر إشارة إلى مدى احتكار الولايات المتّحدة للضمانات الأمنيّة. وهي حقيقة، على الرغم من توسيع المنطقة علاقاتها السياسية والاقتصادية، وخصوصاً العسكرية والأمنيّة، مع دول نوويّة كبرى أخرى مثل روسيا والصين.
بعد حدث الدوحة أعلن رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبدالرحمن آل ثاني أنّ دول المنطقة تتشاور لاتّخاذ موقف. كان انعقاد القمّة العربية الإسلامية في الدوحة ضرورة مهمّة لإبراز صلابة موقف واسع عابر للحدود يرفع بطاقات حمراً رفضاً لشطط “اللحظة الإسرائيلية”، وتشكيل صدّ سياسيّ شامل لجعل الحدث حادثة لا تتكرّر. لكنّ العواصم العربية باتت معنيّة باستراتيجيات أكثر نجاعة وفعاليّة على الرغم من أنّ الاهتداء إليها وانتظار ثمارها قد يأخذان آجالاً غير محدّدة.
لا تريد العواصم قطيعة مع الضمانات الأميركية. كانت قطر نفسها سبّاقةً في التعبير عن ذلك حين سارعت إلى نفي تقارير تحدّثت عن عزمها مراجعة شراكتها الأمنيّة مع الولايات المتّحدة. قال موقع “أكسيوس” الأميركيّ إنّ رئيس الوزراء القطري أبلغ المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف ذلك. بدا أنّ نفي الدوحة يمثّل أيضاً مزاجاً إقليميّاً عامّاً (يشمل تركيا) لا يريد تصعيداً مع الولايات المتّحدة.
وكما لم توفّر العلاقات الممتازة مع الولايات المتّحدة، بما في ذلك وجود إحدى أكبر القواعد العسكرية في البلاد، الأمن لقطر، كذلك لم توفّر روسيا الأمن لسوريا حين كان القصف الإسرائيلي داخل البلاد من روتين التفاهمات مع موسكو في عهد الأسد. ولم تدّعِ الصين يوماً توفير أيّ مظلّة أمان في المنطقة، علاوة على أنّها نسجت علاقات متقدّمة مع إسرائيل تأخذها دائماً بعين الجدّية والاعتبار.
الأمن الاستراتيجيّ يداهم المنطقة
يداهم سؤال الأمن الاستراتيجي المنطقة. بدا المشهد الدوليّ معقّداً لجهة غياب الاصطفافات الدولية وإن أوهمت تجمّعات مثل “البريكس” و”شنغهاي” وغيرهما بوجودها. ثمّ إنّ المنطقة بدت مكشوفة أمام تقدّم تكنولوجيا الدفاع وتدخّل الذكاء الاصطناعي بمستويات لا تملك، في الوقت الحاضر على الأقلّ، القدرة على مجاراتها وامتلاك مفاتيحها. وفيما يقف العالم أمام احتمالات انزلاق حرب أوكرانيا إلى مستويات عالمية، وحتّى نوويّة، لم تكن واردة سابقاً، تحتاج بلدان المنطقة إلى التقاط الأنفاس والاجتهاد لفهم هذا العالم.
يبدو أنّ أهمّ خطوة هي تلك التي تنبّهت لها السعودية باكراً، وجعلتها ورشة مركزيّة داخل سياستها الخارجيّة: يجب وقف حرب غزّة، ليس فقط لأنّها كارثة إنسانيّة، وليس فقط انسجاماً مع ثابت سياسي لطالما اعتمدته مع الدائرة العربية دفاعاً عن الحقّ الفلسطينيّ، بل لأنّ تلك الحرب باتت خطراً على دول المنطقة من دون استثناء. صحيح أنّ الأمر ليس بيد تلك العواصم، وقصف الدوحة خير دليل على امتلاك إسرائيل لقدرات تعطيل أيّ حلّ، لكنّ وقف الحرب لالتقاط الأنفاس بات يحتاج إلى ديناميّات دولية بدأت بالبروز لتحقيق الأمر.
الحاجة إلى خطط جريئة
الأمن القوميّ الاستراتيجيّ العامّ في خطر. يحتاج الأمر إلى خطط خلّاقة جريئة، خطط تحاكي شروط العصر وقواعده وتأخذ بالاعتبار البعد الإسلامي الواسع الذي قليلاً ما غاب عن الفكر الأمنيّ العربي، وتذهب صوب تنويع حقيقي ومتقدّم لمصادر التسلّح “البيتيّ” والمستورَد، وتأخذ بالاعتبار أنّنا نعيش في غابة تكنولوجيّة حديثة باتت تتحدّث لغة الذكاء الاصطناعي ومعادلاته التي لا تفهم أبجديّات شعبويّة متقادمة عن أصول صون الأمم والذود عنها، وتنصب مظلّات أمنيّة متعدّدة الهويّات الإقليمية والدولية.
لكنّ السؤال يبقى عسيراً: كيف نحمي المنطقة؟ كيف نوقف وهم “إسرائيل الكبرى” التي بات نتنياهو يَعِد بها تحت عين واشنطن ومبشّريها؟
محمد قواص