بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
عندما دخلت المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” حيّز التنفيذ في 10 تشرين الأوّل 2025، عند الظهر بالتوقيت المحلّي، أُسكتت المدافع لكنّ الحرب لم تنتهِ. ستُخاض المعركة التالية بالكلمات والقوانين والدبلوماسيّة بدلاً من الغارات الجوّيّة. بالنسبة لإسرائيل، المهمّة هي استعادة مكانتها في عالم مذهول من التكلفة الإنسانيّة لحملتها في غزّة، التي أسفرت عن أكثر من 60 ألف حالة وفاة فلسطينية ونزوح واسع النطاق. أمّا الفلسطينيون فالتحدّي أمامهم هو تحويل التعاطف الأخلاقي إلى قوّة سياسيّة.
هذا الوقف المؤقّت لإطلاق النار، الذي توسّط فيه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يشمل انسحاباً إسرائيليّاً من مناطق معيّنة مع الحفاظ على السيطرة على نحو 60% من غزّة، إلى جانب الإفراج الوشيك عن جميع الرهائن الباقين (يُعتقد أنّهم نحو 20 شخصاً) خلال فترة تمتدّ حتّى 13 تشرين الأوّل. ومع ذلك، تلوح في الأفق معركة من نوع آخر: معركة السرديّات، حيث يسعى كلّ طرف إلى فرض روايته عن الحرب ونتائجها أمام العالم.
أعطى رأي محكمة العدل الدوليّة الاستشاريّ (تمّوز 2024) في عدم شرعيّة الاحتلال دفعةً قويّة للموقف الفلسطيني أخلاقيّاً وسياسيّاً. وفي أوروبا وأميركا اللاتينية، يعمل محامون على رفع دعاوى استناداً إلى “الاختصاص العالميّ” لتأكيد مبدأ المساءلة ولو رمزيّاً. لكنّ الساحة الأوسع تبقى محكمة الرأي العامّ. من الجامعات الأميركيّة إلى النقابات الأوروبيّة، عادت القضيّة الفلسطينيّة إلى واجهة النقاش العامّ. أظهر استطلاع نيويورك تايمز/سيينا الأخير تساوياً تقريبيّاً في التأييد الشعبيّ بين الجانبين (35% للفلسطينيّين مقابل 34% لإسرائيل). ليس الهدف الفلسطينيّ الآن كسب التعاطف وحسب، بل تغيير قواعد اللعبة الدبلوماسيّة وتحويل فكرة الدولة الفلسطينية إلى واقع سياسيّ محتوم لا يمكن تجاهله.
استراتيجية مركّبة
لتحويل التعاطف العالميّ إلى مكاسب ملموسة، يحتاج الفلسطينيّون إلى استراتيجية مركّبة تجمع بين التحالفات والإصلاح الداخليّ والدبلوماسية الذكيّة:
- توسيع شبكة الاعتراف الدوليّ بالدولة الفلسطينية عبر التعاون مع دول الجنوب العالميّ والكتل التقدّمية في الغرب، ليستفيد الفلسطينيون من موجة الاعترافات الجديدة في 2024 و2025، التي شملت إسبانيا وأيرلندا والنرويج، وتُوّجت بخطوتين رمزيّتين بارزتين من بريطانيا وفرنسا في منتصف 2025 إذ أعلنت لندن وباريس رسميّاً اعترافهما بفلسطين دولة مستقلّة ضمن حدود 1967، مع دعوتهما إلى “سلام عادل قائم على المساواة في السيادة والكرامة”. شكّل ذلك تحوّلاً تاريخيّاً في الموقف الأوروبيّ، إذ بات نصف دول الاتّحاد الأوروبيّ تقريباً يعترف بفلسطين، فعاد الزخم إلى فكرة “الحلّ السياسيّ الدوليّ” تحت مظلّة الأمم المتّحدة.
- استثمار القوّة الرمزيّة لحملات المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات (BDS) لفرض ضغوط اقتصاديّة مرتبطة بالقانون الدوليّ.
- توظيف الإعلام الرقميّ والمؤثّرين لإيصال الرواية الفلسطينيّة بلغة قريبة من وجدان الجمهور العالميّ، تسلّط الضوء على إعادة الإعمار والأمل بدل المعاناة فقط.
الدور الأميركي في مستقبل النزاع
داخليّاً تعزيز وحدة الصفّ بين السلطة الفلسطينية و”حماس” شرطٌ أساسيّ لتحويل الدعم الدوليّ إلى إنجاز سياسيّ، خصوصاً إذا ارتبطت المساعدات الأميركية والأوروبية بإصلاحات مؤسّسيّة حقيقيّة في غزّة والضفّة. من دون هذا الانسجام، سيبقى التعاطف العالميّ رأسَ مال عاطفيّاً بلا عائد سياسيّ.
لا يمكن تجاهل الدور الأميركيّ في مستقبل النزاع الفلسطينيّ الإسرائيليّ لعدّة عوامل. تعود الولايات المتّحدة مجدّداً إلى دور الوسيط، لكن هذه المرّة تحت رقابة دوليّة مشدّدة. وبوصفها الراعي الرئيس للهدنة وأقرب حليف لإسرائيل، تمتلك واشنطن أوراق ضغط حقيقيّة. ويُنظر إلى إدارة ترامب، التي ستنشر نحو 200 جنديّ في إسرائيل لمراقبة الهدنة ودعم المساعدات، كعنصر حاسم في نجاح أو فشل المسار الحاليّ. تقتضي سياسة أميركيّة متوازنة ربط المساعدات العسكريّة والماليّة بالامتثال للقانون الدوليّ، إلى جانب الاستثمار في إعادة بناء المؤسّسات الفلسطينيّة وتحسين قدراتها الإداريّة والأمنيّة. لا تحصّن مثل هذه الخطوات وقف النار فحسب، بل تعيد للولايات المتّحدة شيئاً من مكانتها الأخلاقية التي تضرّرت بسبب ازدواجية المعايير في نزاعات أخرى.
تبدّل في المزاج الأميركي
في الداخل الأميركيّ تبدّلٌ واضح في المزاج العامّ. جيلٌ جديد من الديمقراطيّين، إلى جانب تيّار من المحافظين الشعبويّين، بات أكثر تشكيكاً في سياسة “الدعم غير المشروط” لإسرائيل. هذا التحوّل، إن استمرّ، فقد يُرغم واشنطن على إعادة تعريف الشراكة على أساس المساءلة لا الولاء.
ما ينتظر المنطقة ليس سلاماً نهائيّاً بل مرحلة جديدة من حرب السرديّات. ستسعى إسرائيل إلى إعادة بناء شرعيّتها وترميم سرديّتها التاريخية المبنيّة على المظلوميّة التي تعرّض لها اليهود في أوروبا، وتحديداً الهولوكوست، فيما سيحاول الفلسطينيون ترجمة التعاطف إلى اعتراف وسيادة. سيتحوّل الصراع ويأخذ أشكالاً مختلفة، حيث ستكون الأسلحة الجديدة هي المرافعات القانونيّة والقرارات الأمميّة والقصص المصوّرة التي تجتاح وسائل التواصل، وكلّها تهدف إلى ترسيخ المعايير الأخلاقية والقانونية الجديدة للصراع.
أمّا إسرائيل فستسعى إلى ترميم صورتها الدوليّة عبر حملة دبلوماسيّة وإعلامية واسعة النطاق، تبدأ من المؤسّسات الغربية التي كانت تاريخيّاً حليفة لها. من المتوقّع أن تركّز على ثلاث جبهات رئيسة:
إعادة تقديم نفسها كدولة “محاصَرة” تواجه “تهديد الإرهاب” لتخفيف وطأة الاتّهامات بارتكاب جرائم حرب.
- إطلاق مبادرات إنسانيّة وإغاثيّة في غزّة لتظهير الوجه “الأخلاقيّ” للجيش الإسرائيليّ في مرحلة ما بعد الحرب، وربّما توظيف شخصيّات دوليّة مؤثّرة في هذا المسعى.
- استثمار علاقاتها التقنيّة والعلميّة لتعزيز التعاون مع الاتّحاد الأوروبي والولايات المتّحدة في مجالات الابتكار والأمن السيبرانيّ، بما يعيدها تدريجاً إلى دائرة “الشريك الموثوق”.
لكنّ نجاح هذه الاستراتيجية يبقى رهناً بمدى استعداد المجتمع الدوليّ لتجاوز الصور الصادمة التي طبعت الحرب، وبقدرة إسرائيل على تقديم رواية متماسكة توازن بين الأمن والمسؤوليّة الأخلاقيّة. فالمعركة هذه المرّة لا تُكسب في ساحات القتال، بل في عقول وضمائر الرأي العامّ العالميّ.
موفق حرب