بقلم نقولا ناصيف
«أساس ميديا»
بعض الانطباعات الإيجابية التي استخلصها الرئيس نبيه برّي من لقائه الإثنين الفائت الموفد الأميركي توم بارّاك، علاوة على ما تحاورا فيه، شخصيّةٌ. كانت المرّة الثالثة التي يلتقيان فيها. قبل 19 حزيران لدى زيارته الأولى للبنان ثمّ قبل خمسة أيّام، كانت مناسبة أولى بينهما تعود إلى عقد ونصف عقد من الزمن. كان برّي في إيطاليا عندما تلقّى دعوة بارّاك إلى غداء في منزله في سردينيا ما إن علم بوجود رئيس البرلمان هناك. عندما اجتمعا للمرّة الثانية في 19 حزيران سأله برّي فور دخوله عليه في عين التينة هل باع بيته في سردينيا، فردّ بالإيجاب: “منذ زمن”. سأله بارّاك هل يتذكّر يوم التقيا، فردّ برّي أنّه لا يتذكّر إلّا أنّ اللقاء كان قبل 14 أو 15 عاماً.
في معرض إبداء ملاحظاته على اجتماعه الأخير بالموفد الأميركي السفير توم بارّاك، أظهر رئيس البرلمان نبيه برّي انطباعات قلّما استنتجها من الموفدين الأميركيين الذين اعتاد استقبالهم والتحاور معهم في العقود المنصرمة، منذ فيليب حبيب إلى مورغان أورتاغوس. وصف بارّاك بأنّه “رزين، ملمّ بالوضع اللبناني أكثر منّا ربّما، مميّز، لا ينفعل أثناء الحديث أيّاً كان ما سمعه لا يتأثّر. مكلّف بثلاثة ملفّات في آن، في تركيا وسوريا ولبنان، كلّ منها يحتاج إلى ثلاثة أشخاص كي يديره”.
أمّا ما يتجاوز رأيه في الزائر الأميركي، فقول برّي إنّ مفاوضاته معه “كانت أفضل من أيّ مفاوضات قبلها”، مع إصراره أمامه على وقف النار أوّلاً. ردّ بارّاك بإبداء “تجاوب وتفهّم”، مع تأكيده أنّه سيعود إليه بعد أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بجواب إدارته، دونما أن يعقّب أمامه برأي أوّليّ في ورقة الردّ اللبنانية التي “كان يحتفظ بها في جيبه”.
يقول رئيس المجلس إنّه لا علم له بتزامن الإجراءات التالية لتثبيت وقف النار والانسحابات، والمقصود بها خطوة مقابل خطوة من طرفي إسرائيل و”الحزب”، ولم يُطرح أساساً معه، وهو “غير وارد عندي”، فيما لمس موقفاً بنّاءً في عدم اشتراط واشنطن روزنامة وبرمجة سريعة، على غرار ما فعلت الموفدة السابقة مورغان أورتاغوس، لبتّ مصير سلاح “الحزب”.
تنسيق فرنسيّ – أميركيّ
أمّا ما لا يقوله برّي عن مهمّة الموفد الأميركي وهو على علم به، فيكمن في بضعة معطيات:
1- تنسيق أميركي – فرنسي يرافق مهمّة بارّاك عبّر عنه اجتماع غير معلن بينه وبين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إضافة إلى اجتماعات علنيّة مع مسؤولين فرنسيّين في الكي دورسيه والإدارات الأمنيّة. فحوى التنسيق تعويل واشنطن، في نطاق إنجاح مهمّة موفدها، على دور فرنسيّ لدى “الحزب” لإقناعه بالتساهل والانضمام إلى الحلول التي يتمسّك بها الأميركيون لمرحلة تثبيت وقف النار مع إسرائيل وما بعدها.كذلك الأمر مع السعودية، حين زارها بارّاك قبل لبنان وسهرته الطويلة مع الأمير يزيد بن فرحان المكلّف بالملف اللبناني وفيه العلاقات اللبنانية – السورية.
2- على الرغم من النيّات الحسنة التي أبداها الموفد الأميركي من خلال لغة مرنة وتساهله في تسهيل الحلول فيما مضمون الموقف الأميركي المتصلّب من سلاح “الحزب” نفسه، وعلى الرغم من اهتمام بارّاك بإظهار لبنانيّته وانتمائه إلى جذوره الزحليّة وكاثوليكيّته، لكن من غير الواضح والقاطع تماماً مدى مقدرته على التأثير داخل الإدارة الأميركية في ما يستجيب لمصالح لبنان وضمان أمنه، في موازاة تمسّك واشنطن بأولويّة المصالح الإسرائيلية. عندما لمّح إلى أنّ مهمّته تنتهي آخر السنة الجارية فهِمَ المسؤولون اللبنانيون أنّه يحضّهم على إنهاء ملفّ سلاح “الحزب” قبل ذلك الوقت، بغية الاستفادة من دوره قبل مغادرته منصبه.3- إزاء ما عرضه الأميركيون في ورقة المطالب، أجاب لبنان في ورقة الردّ تبعاً لمعادلة أنّه لا يقبل بكلّ ما ورد في الورقة الأولى، وأنّه لا يتقيّد بكلّ الشروط التي طلب “الحزب” إيرادها في الورقة الثانية. ذلك أوجب تركيز الردّ الذي يأمل جواباً أميركيّاً إيجابيّاً عنه قريباً، على أولويّات متدرّجة للوصول إلى حصر السلاح في يد الدولة اللبنانية وامتلاكها قرارَيْ السلم والحرب. في نهاية المطاف لا يسع “الحزب” إلّا الانصياع لها.
4- تزامُن الخطوات حتميّ. بدأ بفكرة لبنانية نالت موافقة أميركية على نحو أضحى جوهر مهمّة بارّاك على أنّه الأرضيّة الواقعيّة والجدّية للتوصّل هذه المرّة إلى تطبيق فعليّ للقرار 1701، فلا يقتصر كما بعد عام 2006 على وقف الأعمال العدائية. لا إسرائيل قادرة في المرحلة الحالية والقريبة على تجريد “الحزب” من سلاحه بالقوّة من خلال حملة عسكرية جوّية وبرّية واسعة النطاق، ولا هو قادر على العودة إلى مواجهتها إلّا برفع الصوت والنبرة عالياً والتهديد وبإصراره على احتفاظه بسلاحه.
بذلك تمسي معادلة التزامن الخيار الوحيد المتاح بغية الوصول إلى إخراج إسرائيل من الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحتلّها، وتخلّي “الحزب” عن سلاحه شمال نهر الليطاني بعد جنوبه. ثبات فكرة التزامن تجعل التفاوض الحالي بين لبنان وواشنطن يدور حول برنامج تطبيقه بالتوازي.
“الحزب” مكوّن لبنانيّ؟
5- أهمّية السؤال الذي طرحه الموفد الأميركي على معظم مَن التقاهم، بمَن فيهم رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، أضف أنّه أعاد تكراره في صيغ مختلفة في تصريحاته، وهو: هل “الحزب” مكوّن لبناني؟ فُهِم طرح السؤال على أنّه يحمل الجواب في طيّاته. لم يسع أحد التنصّل منه على وفرة المآخذ السلبية التي سمعها بارّاك عن “الحزب” وما يعرفه هو بالذات عنه. وهو مغزى ما عبّر عنه من أنّه يفضّل تولّي لبنان، لا إسرائيل، التخلّص من سلاح “الحزب” نهائياً توطئة لاستعادته دوره في الحياة السياسية اللبنانية.
نقولا ناصيف