تقصير الرّئيس وخطأ البطريرك

بقلم د. فادي الأحمر

«اساس ميديا»

تفجير كنيسة مار إلياس في الدويلعة صدم الجميع في سوريا وخارجها. في لبنان ذكّر بتفجير كنيسة سيّدة النجاة (1994) ولو اختلف الأسلوب. وفي مصر ذكّر بتفجير كنيسة القدّيسين في الإسكندريّة (2011)… إلى ما هناك من أعمال إرهابيّة طالت كنائس وقتلت مؤمنين ورجال دين.

للذكرى لا للمقارنة

يروي الزميل أنطوان سعد في كتابه “السادس والسبعون” أنّ البطريرك الراحل نصرالله صفير زار كنيسة سيّدة النجاة بعد ظهر يوم الانفجار وصرّح للصحافيين الذين تجمهروا أنّ “مجزرة من هذا النوع لا يمكن أن نصِفها، وهي لم تستهدف فقط هذه الكنيسة، بل استهدفت السلام (…) نحن نستنكرها كلّ الاستنكار ونسأل الله أن ينتزع البغضاء والحقد من القلوب (…) إنّ الذين يقدمون على مثل هذه الأعمال هم مواطنون قد خسروا جانباً من إنسانيّتهم”.

في عظة الصلاة عن أنفس الشهداء قال: “كيف نرضى بأن نرى أبناءنا يُذبحون أمام عيوننا حول مذبح الربّ ونحن الذين لجأنا إلى المغاور والكهوف في عهد الظلم والظلام طوال مئات السنين ليسلم لنا الإيمان بالله وعبادته على طريقتنا في هذه الجبال وعلى الشواطئ ولتبقى لنا الحرّية التي إن عدمناها عدمت الحياة”.

يتابع الزميل سعد بأنّه إثر التفجير عُقدت خلوة روحيّة مسيحيّة – إسلاميّة حضرها مفتي الجمهوريّة ونائب رئيس المجلس الإسلاميّ الشيعيّ الأعلى، وتغيّب شيخ عقل الدروز بداعي السفر. وخرج المجتمعون ببيان طالبوا فيه بـ”اتّخاذ التدابير الآيلة إلى كشف مجرمي مجزرة كنيسة سيّدة النجاة”.

أهداف “مار إلياس”

تفجير كنيسة مار إلياس في الدويلعة أخطر من تفجير كنيسة سيّدة النجاة. في السيّدة كان المستهدف حزب “القوّات اللبنانيّة” وقائده. أمّا في مار إلياس فالمستهدَف سوريا واستقرارها ووحدتها. لذلك تطلّب التفجير الإرهابيّ ردّ فعل سوريّاً رسميّاً ودينيّاً أكبر من الذي حصل. في المقابل كان الأجدى خطاباً كنسيّاً يهدّئ النفوس المشحونة ويساهم في بناء الثقة المفقودة بالدولة.

من الواضح أنّ الهدف الأوّل من التفجير زيادة الفوضى في سوريا غير المستقرّة. أمّا الهدف الثاني فهو تأليب المكوّن المسيحيّ ضدّ النظام الجديد. بذلك تُضاف إلى أزمات النظام مع الكُرد والدروز والعلويين أزمة جديدة مع المسيحيين.

تقصير الشّرع

ربّما لم يلتقط الرئيس السوري أحمد الشرع الرسالة الدمويّة بسرعة. ولم ينتبه فريقه إلى أبعادها وخطورتها، خاصّة أنّها أتت بعد أسابيع قليلة على أحداث جرمانا ضدّ الدروز التي سبقتها أحداث الساحل التي وُصفت بالمجزرة. هل بسبب نقص في الخبرة السياسيّة وفي الحدس السياسيّ؟ هل بسبب مانع دينيّ؟ ومعروف أنّ الشرع وفريقه الأساسيّ في الحكم آتون من خلفيّة دينيّة إسلاميّة متطرّفة. ربّما هذا أو ذاك. وربّما الاثنان معاً.

مهما يكن السبب، كان على الرئيس الشرع الذهاب مباشرة إلى أرض الجريمة قبل أن تُزال آثارها وتنشف دماء الشهداء والجرحى. وكان عليه مواساة ذوي الشهداء قبل أن يتحوّل حزنهم غضباً على الحكومة والنظام. من شأن زيارته، لو حصلت، أن تبدّد المخاوف الموجودة أصلاً من إسلاميّة النظام والهواجس المتّصلة بالمساواة والمشاركة التي لا تزال تثير الريبة لدى المسيحيين، بل ولدى العديد من السوريّين على اختلاف انتماءاتهم الدينيّة والطائفيّة والقوميّة. الأهمّ من ذلك، كان من شأن زيارة الشرع لصرح البطريركيّة الأرثوذكسيّة، وهي الكنيسة الكبرى في سوريا، إسقاط الفكرة التي زرعها نظام الأسد في عقول السوريين على مدى نصف قرن بأنّه حامي الأقليّات، في وقت حوّل الشعب السوريّ إلى أكثريّة مضطهَدة ومعذّبة في السجون والمعتقلات.

خطأ البطريرك

تقصير الرئيس ولّد خطأ البطريرك يوحنّا العاشر اليازجيّ الذي ألقى عظة ناريّة خلال تشييع جثامين الشهداء، وتوجّه إلى الرئيس أحمد الشرع مباشرة قائلاً: “اتّصلتم بالنائب البطريركيّ. لا يكفينا هذا”. شكره على الاتّصال، “لكنّ الجريمة التي حصلت أكبر من هيك”، بحسب ما قال. وردّاً على إعلان يوم الجريمة يوم حداد وطنيّ، طلب إعلانه “يوم حداد على الحكومة” التي حمّلها “كامل المسؤوليّة” عن هذه الجريمة.

لقد أخطأ البطريرك اليازجي في ردّ فعله على “تقصير” الرئيس الشرع. نعم الجريمة “أكبر من هيك”. وهي تستدعي زيارة الرئيس السوري، خاصّة في الظروف التي تمرّ بها سوريا وبسبب الحاجة إلى طمأنة السوريين إلى أمنهم، وإلى طمأنة المكوّنات إلى مستقبلهم ومشاركتهم في النظام الجديد وفي بناء سوريا الجديدة.

لكن ليس من العدل ولا الحكمة السياسيّة تحميل الحكومة، وعمرها لا يتجاوز ثلاثة أشهر، “كامل المسؤولية” عن التفجير. فسوريا لا تزال في حال فوضى. لا تسيطر الحكومة على كامل البلاد، وما تزال العديد من الميليشيات تسرح وتمرح فيها، و”تحت كلّ وسادة قطعة سلاح”، كما قال لي أحد شخصيّات المعارضة في الخارج، مؤكّداً هذه المسألة بعد عودته إلى سوريا.

الكلّ يعلم التحدّيات الكبيرة أمام الحكومة السوريّة. وأبرزها التحدّي الأمنيّ في سوريا مشلّعة وشرق أوسط متفجّر. لذلك كان من الحكمة تخطّي تقصير الرئيس، والاكتفاء برسالة عتب بدلاً من عظة ناريّة تزيد من غضب النفوس المشحونة ومن المخاوف والهواجس الموجودة أصلاً. فالمسيحيون في سوريا عرب أصيلون قبل أن يكون الإسلام. هذا ما كان يقوله البطريرك الراحل إغناطيوس الرابع هزيم.

لذلك يجب العمل على إعادة ثقتهم ببلادهم وتشجيعهم على العودة إليها بعدما هجروها، إمّا بسبب ديكتاتوريّة البعث ثمّ آل الأسد أو بسبب الحروب. فقد تراجع عددهم من 15% في ستّينيّات القرن الماضي (بحسب الباحث ميشال سورا) إلى 6% في بداية القرن الحالي (بحسب الباحث يوسف كرباج) إلى حوالي 2% اليوم.

تبديد الهواجس

تفجير كنيسة مار إلياس مؤشّر إضافيّ إلى خطورة الوضع في سوريا. التقصير في تحمّل المسؤوليّة والانجرار وراء العواطف وعدم التعاطي بحكمة مع المسألة، كلّ هذا يساهم في تحقيق هدف المجرم. لذلك المطلوب اليوم من السوريين، كلّ السوريّين، الوحدة. والمطلوب من النظام الجديد طمأنة كلّ المكوّنات إلى أنّه لن يكون نظاماً إسلاميّاً، وتبديد هواجسهم من خلال المشاركة الفعليّة في الحكم وفي إعادة بناء الدولة على أسس الديمقراطيّة والمساواة.

خلاف ذلك، سينجح المتربّصون بسوريا والعاملون على نشر الفوضى فيها والساعون إلى تقسيمها في عرقلة مسار إعادة بناء البلاد وربّما في إفشالها.

د. فادي الأحمر