جنوب القوقاز: اختراق أميركيّ تركيّ في خاصرة روسيا وإيران

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

لم يعد جنوب القوقاز ساحة تماسّ بين الشرق والغرب وحسب، بل تحوّل إلى مسرح لإعادة رسم خرائط النفوذ والطاقة والتحالفات .نجحت واشنطن في حياكة ثوبه الجديد الذي استغرق العمل عليه حوالي خمس سنوات بصبر وعناية. الأهداف كثيرة، والتضحية من دون تردّد بما ينبغي من أحجار .

تريد واشنطن أن تكون شريكاً في خطط تضييق الخناق على التمدّد الإيراني – الروسي في أكثر من بقعة فيما تصرّ موسكو وطهران على اعتبارها من حدائقهما الخلفيّة. وتركيا تستفيد من انشغال روسيا بالملفّ الأوكراني، وورطة إيران في ملفّات المنطقة الساخنة مع تل أبيب وواشنطن، لتبني استراتيجية تحرّك جديدة هناك .

منح الوضع المتقلّب جنوب القوقاز أميركا فرصة توسيع نفوذها وامتلاك موطئ قدم على حساب التمدّد الروسي والإيراني هناك. ليس هدف واشنطن جنوب القوقاز فقط، بل التأثير في توازنات البحر الأسود وحوض قزوين وخطط روسيا في فتح ممرّات تجارية استراتيجيّة في الشمال والجنوب. ولتحقيق ذلك، سارعت إدارة دونالد ترامب بدعم تركي – إسرائيلي إلى تحسين علاقاتها مع أذربيجان وأرمينيا وتعزيز جهود التقريب بينهما على حساب إيران وموسكو.

أمّا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، المنشغل منذ شباط 2022 بالحرب مع أوكرانيا، فقد خسر الكثير من النفوذ والدور أمام لاعبين آخرين بينهم أذربيجان وأرمينيا وتركيا وإسرائيل، وهي كلّها دول ناشطة في جنوب القوقاز.

اعتبارات موسكو في المنطقة

تعلم موسكو:

– أنّ جنوب القوقاز تحوّل إلى ساحة تنافس بين القوى الإقليمية والدولية، وأنّ الأمور تسير نحو اصطفافات جيوسياسية تستدعي التعامل مع تحدّيات جديدة.

– أنّ الصراع على جورجيا سيحتدم مع الغرب عاجلاً أم آجلاً، وأنّ واشنطن لن تتركها بوّابة عبور روسيّة للوصول إلى الأسواق الأوروبية، لأنّ ذلك يتعارض مع مصالح حلفائها هناك وعلى رأسهم باكو ويريفان.

– أنّ السلام بين أرمينيا وأذربيجان سيكون على حساب جورجيا ما دام يتقدّم برعاية تركيّة – أميركيّة .

– أنّ الحرب الإيرانية – الإسرائيلية الأخيرة أضافت بعداً جديداً على تعقيدات المشهد في جنوب القوقاز، وأنّ الوجود العسكري الروسيّ بعد سقوط الاتّحاد السوفيتي لم يوفّر لموسكو الدفاع عن مصالحها التجارية، ولم يجلسها إلى طاولات رسم الخرائط السياسية وخطوط نقل الطاقة .

المطلوب تنازلات

لكن على الرغم من كلّ ذلك، المطلوب من روسيا اليوم هو تقديم تنازلات أكبر في حدائقها الخلفيّة للّاعبين المحليّين والإقليميّين، والتحالفات والمتغيّرات الجديدة المدعومة أميركياً، كي لا تجد نفسها أمام ورطة محاصرتها بالأمر الواقع الإقليمي الجديد الذي بدأ يتشكّل هناك وتُعتبر إيران المستهدَف الأوّل فيه .

تخشى إيران اضطراب حدودها بسبب ممّر زنغزور، وبالتالي تتعقّد علاقاتها مع أذربيجان أكثر فأكثر، بينما ترى تركيا في ذلك تعزيزاً لروابطها الوثيقة مع باكو وترسيخاً لدورها المحوري الرابط بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، خصوصاً أنّها تعمل في الوقت ذاته على تفعيل طريق النقل الدولي العابر لبحر قزوين، وتوسيع دور منظّمة الدول التركيّة في البلقان.

موسكو وطهران غاضبتان من التقارب الأرميني – الأذربيجاني بدعم وتشجيع تركي – أميركي في منطقة تتمّ فيها إعادة توزيع النفوذ وتقاسمه بين تكتّل خماسيّ في طريقه إلى الولادة .بينما تراقب بكين بصمت الحراك في رقعة جغرافية تمّر فيها طرقها التجارية، من دون أن تحسم بعد شكل مشاركتها في لعبة التوازنات الجديدة هناك .

النّقلة الأساسيّة على رقعة الشّطرنج

ممرّ زنغزور هو النقلة الأساسية في لعبة الشطرنج القوقازيّة اليوم، فأرمينيا تريد حصّتها، بينما ترى فيه أنقرة ممرّاً استراتيجيّاً لتعزيز التواصل مع أذربيجان وآسيا الوسطى. من هنا يدرك بوتين أنّ مصالح بلاده تحتّم قراءة المتغيّرات الحاصلة بسرعة واحترافيّة، وأنّ دعمه لخطط ممرّ زنغزور التجاري الذي تصرّ عليه أنقرة لربط حدودها مع آسيا الوسطى عبر إقليم نهشفان وأرمينيا وأذربيجان، والذي أغضب طهران، لم يعد يكفي .

لم ترفض أرمينيا استضافة مناورات عسكرية لمنظّمة دول معاهدة الأمن الجماعي فقط، بل ذهبت إلى حدّ قبول إجراء تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتّحدة، متجاهلة بنود ومحتوى هذه المعاهدة التي تقودها روسيا في محاولة لإبقاء الجمهوريّات السوفيتية السابقة تحت جناحها. يعود رئيس وزراء أرمينيا، نيكول باشينيان، من زيارة للعاصمة التركية محمّلاً بالكثير من المواقف الإيجابية، التي دفعت البعض للتحرّك ضدّه في الداخل الأرميني بتوجيهات روسيّة، ووصل الأمر إلى محاولة انقلابية فاشلة .

من ناحيتها باكو التي اتّهمت موسكو بالوقوف وراء سقوط طائرتها قبل أشهر، ترفض اليوم التستّر على تعذيب مواطنيها، وتتحرّك لإغلاق مؤسّسات روسيّة فوق أراضيها، وسط أزمة سياسية ودبلوماسية حادّة تعكس حجم التغيير في مواقف أذربيجان الإقليمية. الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف يحطّم الحواجز في جنوب القوقاز، ورئيس الوزراء الأرمني باشينيان يقدّم له الدعم اللوجستي، وأنقرة وواشنطن وتل أبيب شركاء في التخطيط والتنفيذ. أمّا من سيدفع الثمن فهما روسيا وإيران .

أذربيجان لتوفير الغاز بدلاً من روسيا

ما ينتظر روسيا في العقد المقبل هو أكثر من مواجهة استراتيجيّة مع الغرب في عمق جغرافيّتها، فالتعويل على أذربيجان لتكون الرديف المهمّ لتوفير احتياجات أوروبا من الغاز بدلاً من روسيا، والاختراق الغربي لحوض بحر قزوين المهمّ في مجالات النقل والطاقة، وخطّ أنابيب باكو – تبليسي – جيهان وربط بحر قزوين بالبحر المتوسّط، وتحقيق هدف عبور أنابيب النفط والغاز من آسيا الوسطى إلى أوروبا من دون المرور بروسيا أو إيران، ومواجهة “الخطّ الروسيّ الشمالي”، وعرقلة “ممرّ الشمال – الجنوب الاستراتيجي المتعدّد الفوائد لروسيا”.

تواجه الخطط الأميركية هذه التحديّات: هل تتخلّى أنقرة عن تفاهماتها الاستراتيجيّة مع روسيا في جغرافيا مشتركة ومتداخلة؟ وهل تقامر وتضحّي بتعريض حوض البحر الأسود للخطر عند شعور موسكو أنّ جنوب القوقاز يخرج من يدها؟

ستشمل تفاهمات ترامب روسيا أيضاً بعد سحب الكثير من الأوراق الاستراتيجية من يدها ودفعها للتخلّي عن شراكاتها مع طهران في جنوب القوقاز .كلّ ممرّ جديد في جنوب القوقاز هو خطّ تماسّ إضافي في صراع الأوزان، حيث لا مجال للتراجع، ولا ضمانات للبقاء في موقع الشريك أو الطرف الرابح .

د.سمير صالحة