بقلم محمد بركات
«اساس ميديا»
سيذكر التاريخ 5 آب ليس على أنّه قرار حكومي بحصر السلاح بيد الدولة قبل نهاية عام 2025. بل باعتباره تاريخ الاستقلال الجديد، الذي سيفتتح زمان الانتهاء من أقسى احتلالين في تاريخ لبنان: الإسرائيلي، والإيراني. وسيفتتح تاريخ “الاستقلال الثالث”، لطيّ صفحة الموتوسيكلات و”أبو سلّة” والوقاحة الإيرانيّة.
بكبسةٍ واحدة، ضغط لبنان الرسمي على زرّ يستطيع افتتاح طريق سريع، ينهي في لحظة سياسية واحدة احتلالين:
- الاحتلال الإسرائيلي الذي تمدّد في 1982 باجتياح بيروت.
- والاحتلال الإيراني الذي تمدّد في 2005 باغتيال رفيق الحريري.
لبنان الذي عاش عقوداً بلا سيادة، تارة تحتلّه إسرائيل، وطوراً تحتلّه القوّات السورية، وأطواراً تحتلّه إيران، وجد نفسه فجأةً قادراً على إعادة تعريف وظيفته ودوره وذاته: دولة ذات سيادة كاملة.
- تتّفق مع أميركا على إجبار إسرائيل على الانسحاب.
- وتجبر إيران على التعامل مع لبنان كدولة ذات سيادة.
لحظة واحدة، تعيد ربط 3 لحظات تاريخية، وتكثّفها في مشهد واحد:
- اتّفاق الطائف: الذي وضع أسس بناء الدولة، وأبرزها “حصر السلاح”، ولم يُطبّق على الحزب.
- 14 آذار: بوصفها لحظة التحرّر من الوصاية السوريّة العسكرية والأمنيّة.
- 17 تشرين: باعتبارها لحظة ضيق اللبنانيّين من منظومة السلاح والفساد.
إعادة صياغة دور لبنان
5 آب يوم تاريخيّ لأنّه أعاد تعريف دور لبنان ووظيفته في المنطقة. من ساحة عسكريّة لتوسيع الاحتلال الإيراني صوب الدول العربية الأخرى، إلى جسر عبور وانفتاح. وسوق لإعادة الإعمار والاستثمار والسياحة. خصوصاً في جنوب لبنان الذي ظلّ على مدى 100 عام منذوراً للحروب والموت والتدمير.
جاء قرار حصر السلاح بيد الدولة أيضاً ردّاً على كلمة الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم، في الليلة التي سبقت جلسة الحكومة. أعلن فيها استحالة تسليم السلاح. فجاء قرار الحكومة ليعيده إلى الحجم الطبيعي: أمين عامّ لحزب، وليس مرشد الجمهورية. وليس بيده تحديد سياسات الدولة ولا الوصاية على أمن اللبنانيين القومي.
مثلَّث وقاحة إيرانيّ
تجلّت الوقاحة الإيرانية أيضاً في 3 تصريحات متتالية من أرفع المسؤولين الإيرانيين، يرفضون فيها قرار الحكومة ويطالبون بالإبقاء على سلاح “الحزب”:
- عراقجي في 5 آب: التصريح الأوّل حاول استباق جلسة الحكومة اللبنانية صباح 5 آب. إذ قال وزير خارجية إيران عبّاس عراقجي إنّ “الحزب سيصمد في وجه محاولات نزع سلاحه”. من دون أن يخبرنا عن الصفة التي يتحدّث بها، وهو يدعم حزباً مسلّحاً في دولة بعيدة عن بلاده 1,500 كيلومتر. ولا حدود بريّة تجمعنا به.
- ولايتي في 9 آب: بعد يومين من جلسة الحكومة الثانية، خرج مستشار المرشد الإيراني علي أكبر ولايتي ليقول إنّ “الحزب سيحمي نفسه من هذه المخطّطات الأميركية”. من دون أن يقول لنا أيضاً ما هي صفة مستشار مرشد إيران في تقرير مصير لبنان واللبنانيين.
- باقري في اليوم نفسه: يوم السبت 9 آب كان حافلاً. فالأمين العامّ لـ”المجلس الاستراتيجي الإيراني” علي باقري أدلى بدلوه أيضاً. فاعتبر أنّ “الحزب قوّة متجذّرة في الشعب اللبناني ولن تنجح محاولات إخراجه من المعادلة”. بل وذهب أبعد في الوقاحة، محاولاً نزع شرعيّة الحكومة: “الحزب تيّار نابع من الشعب اللبناني وليس نتاج حكومة معيّنة”.
الرّدّ الرّسميّ من لبنان
لكنّ لبنان الجديد تردّ وزارة خارجيّته على عراقجي بالقول إنّ كلامه “مرفوض ومدان، ويشكّل مساساً بسيادة لبنان ووحدته واستقراره، ويعدّ تدخّلاً في شؤونه الداخلية وقراراته السيادية”. ثمّ ردّت الحكومة بإقرار جدول زمني لحصر السلاح بيد الدولة في كلّ لبنان، دون أيّ خوف من إيران ووزيرها وتهديداته.
وقد جاء قرار 5 آب كصفعة لخطابَي عراقجي وقاسم. ووضعهما في إطار “الخطاب الأخير، قبل الهزيمة الكبيرة”.
يوم السبت أصدرت وزارة الخارجية بياناً جديداً ردّ على ولايتي وباقري بالقول إنّ كلامهما “تدخّل سافر في شؤون لبنان”. واعتبرت تصريحات المسؤولين الإيرانيين “مواقف مشبوهة ضدّ قرارات داخلية لبنانية لا تعني إيران في شيء”.
في موقف غير مسبوق، قالت الخارجية إنّها “لن تسمح لأيّ طرف خارجي، صديقاً كان أم عدوّاً، بأن يتحدّث باسم شعبها أو أن يدّعي حقّ الوصاية على قراراتها السياديّة”. ودعت طهران إلى أن “تلتفت لقضايا شعبها وتركزّ على توفير احتياجاته وتحقيق تطلّعاته، بدل التدخّل في أمور لا تخصّها”.
التّحوّلات الإقليميّة… وإصلاح الدّاخل
ينسجم قرار 5 آب مع التحوّلات الإقليمية والدولية العاصفة. حيث تتراجع قبضة إيران في العراق واليمن، بعد بتر يد طهران في سوريا وغزّة.
الأهمّ أن يكون القرار مقدّمة لاستكمال الإصلاحات الإدارية والمالية والسياسية والأمنيّة. لأنّه خاطب كلّ اللبنانيين، بمن فيهم جمهور “الحزب”. ويعلن أنّ بناء دولة قويّة وعادلة يصبّ في مصلحتهم أوّلاً. إذ يخرجهم من دوّامة الحروب العبثيّة.
رحّبت الدول الراعية للبنان فوراً بقرار حصر السلاح بيد الدولة. وعلى رأسها أميركا والدول العربية ومجلس التعاون الخليجي. لأنّ القرار يعيد لبنان إلى قلب المنظومة العربية، بعدما غرّد طويلاً ووحيداً في المحور الإيراني المفلس والعاجز عن مساعدة اللبنانيّين.
رسالة الموتوسيكلات: من زمن مضى
الردّ الكلاسيكي على قرار الحكومة، من خلال تسيير “موتوسيكلات” في شوارع بيروت وبعض شوارع جنوب لبنان وبعلبك والهرمل، بدا كأنّه آتٍ من زمنٍ مضى. فقد انتهى زمن التخويف بـ”الأهالي”.
ربّما كان على الإيراني أن يقرأ جيّداً حجم الدعم الدولي للبنان الجديد. وعليه أن يراقب جيّداً تدفّق المسؤولين العرب والغربيّين إلى بيروت في الأيّام المقبلة.
ربّما كان على من أرسل الموتوسيكلات أن يقرأ جيّداً رسالة قتل المطلوب رقم واحد في البيئة الشيعية: “أبو سلّة”. وقد افتتح رئيس الجمهورية الجلسة الحكومية بـ”تهنئة قيادة الجيش بالعملية التي أسفرت عن القضاء على اثنين من أخطر تجّار المخدّرات في بعلبك”.
انتهى زمن التخويف الإيراني والموتوسيكلات وأبي سلّة.
هُنا الدّولة.
محمد بركات