دمشق وسلاح “الحزب”: قلق على الأمن القوميّ؟

«أساس ميديا»

لم تعد العلاقة بين سوريا و”الحزب” على صورتها التي عرفها محور طهران – دمشق – الضاحية منذ أكثر من ثلاثين عاماً. فالمعادلة التي كانت تقوم على شراكة استراتيجيّة متبادلة تحت سقف العداء لإسرائيل ومواجهة النفوذ الأميركي، باتت اليوم موضع مراجعة من الجانب السوري، وسط تغيّرات بنيويّة طالت النظام نفسه في دمشق، مع صعود الرئيس أحمد الشرع إلى الحكم، حاملاً مشروعاً لإعادة بناء الدولة السوريّة على أساس مغاير لما فرضه نظام بشّار الأسد وتحالفاته.

تحوّل “الحزب” تدريجاً إلى عامل توتّر في الحسابات الأمنيّة السوريّة. هذا التغيير لم يحدث دفعة واحدة، لكنّه تبلور عبر سلسلة وقائع ميدانية وأمنيّة واستخباريّة دفعت دمشق إلى إعلان موقف صريح، في الكواليس بداية، مفاده أنّ استمرار سلاح “الحزب” خارج إطار الدولة اللبنانية يُمثّل خطراً على الأمن القوميّ السوري.

ليس من باب المصادفة أن يختار رئيس هيئة العدالة الانتقالية السوريّة، عبدالباسط عبداللطيف، قناة “العربية” لإعلان موقفه الواضح بملاحقة مجرمي الحرب، بما في ذلك عناصر من “الحزب” متورّطون في جرائم داخل سوريا. فهذا التصريح، بتوقيته ومنصّته ومضمونه، يحمل دلالة سياسية واضحة مفادها أنّ دمشق باتت تراقب عن كثب تحرّكات “الحزب” وأنشطته العابرة للحدود، وأنّ ما كان يُمرّر في السابق تحت عنوان “المقاومة” لم يعد مقبولاً لأنه يمسّ السيادة السوريّة.

من التّنسيق الكامل… إلى إدارة النّفور

في سنوات ما قبل الثورة السوريّة، كانت العلاقة بين “الحزب” والنظام السوري علاقة وظيفيّة عميقة، لا تخضع لأيّ مساءلة أو تفاهمات مكتوبة. كان “الحزب” يعبر من الحدود متى يشاء، ويخزّن السلاح في الداخل السوري، ويتدرّب على أراضيه، ويعتمد على جهاز الأمن العسكري السوري لتأمين قنوات النقل والتمرير. وفي المقابل، استفاد النظام من خدمات “الحزب” الأمنيّة والعسكرية، ومن شبكة علاقاته الخارجية، خاصّة مع إيران.

لكنّ هذا النموذج تحطّم منذ عام 2011، حين دخل النظام السوري في أزمة وجوديّة، واستعان بـ”الحزب” كقوّة تدخّل ميدانيّ في معارك المدن السورية. وبعد تدخّل “الحزب” في القصير والقلمون والزبداني، تعزّزت سلطته الأمنيّة في المناطق الحدودية، إلى أن صار يتصرّف كطرف عابر للسيادة، لا يُقيَّد إلّا بالتنسيق الإيراني المباشر.

اليوم، ومع وصول الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة، تغيّر الإطار السياسي والأمني في سوريا. فالقيادة الجديدة، الآتية من خلفيّة مختلفة، تنظر بعين الريبة إلى استمرار الوجود المسلّح غير الرسمي على حدودها، سواء من “الحزب” أو من تشكيلات محسوبة على إيران. فالدولة السوريّة اليوم تسعى إلى إعادة تنظيم علاقتها مع لبنان والعالم العربي، وترى أنّ أيّ سلاح غير شرعي يتنقّل على حدودها أو عبر أراضيها هو تهديد مباشر لسيادتها ولمشروعها في إعادة بناء الدولة.

دمشق تحذّر: سلاح “الحزب” خطر على حدودنا

في أكثر من لقاء رسمي وغير معلن عُقد أخيراً بين مسؤولين سوريّين ولبنانيّين، برعاية سعودية، أعربت دمشق عن قلقها العلني من أن يكون استمرار سلاح “الحزب” خارج سلطة الدولة اللبنانية هو أحد أكبر التهديدات الوجودية للأمن السوري الجديد.

وفق معلومات “أساس” فقد عبّر المسؤولون السوريون بصراحة عن خشيتهم من أن تصبح الحدود السوريّة – اللبنانية، ولا سيما في البقاعين الغربي والشمالي، ممراً مستمرّاً لتهريب السلاح، لا يمكن ضبطه أو احتواؤه. فالنظام الجديد، لا يريد أن يُزجّ في صراعات الآخرين أو أن يُتّهم بأنّه لا يزال يوفّر ممرّاً للذخائر الإيرانية والأنشطة الخارجة عن الشرعية.

وفق المصدر، أكّد المسؤولون السوريّون لأكثر من مسؤول لبناني أنّ انتظام العلاقة اللبنانية – السورية يرتبط بالمسارات الدولية والإقليمية الجارية، التي تؤكّد ضرورة “حصر السلاح بيد الدولة” على اعتبار أنّ “الحزب” يمارس أدواراً أمنيّة إلى هذه اللحظة في سوريا.

يُعبّر هذا الموقف عن تبدّل في الأولويّات السوريّة: فالنظام السابق كان جزءاً من مشروع حماية “المقاومة”، فيما الدولة الجديدة تحمل عنواناً مغايراً، وهو حماية الداخل السوري، تماشياً مع الموقف العربي والدولي. فدمشق تريد اليوم حماية مصالحها، لا خدمة أجندات الآخرين، أيّاً كانت شعاراتهم.

نقل سلاح.. “كورنيت متنقّل”

بالمقابل يشير مصدر أمنيّ سوري لـ”أساس” إلى أنّ إحدى العمليّات التي شكّلت تحوّلاً في الموقف السوري كانت إحباط تهريب شحنة من صواريخ “كورنيت” المضادّة للدروع من ريف دمشق باتّجاه الأراضي اللبنانية. العملية التي نُفّذت بتنسيق بين الأمن العامّ السوري وجهاز أمنيّ عربي، كشفت عن شبكة تهريب منظّمة يقودها عناصر من بقايا النظام السابق، كانت خلال مرحلة النظام السابق تتلقّى دعماً مباشراً من الحرس الثوري الإيراني، ومرتبطة بجهات عمليّاتيّة في “الحزب”.

أثارت هذه العمليّة حفيظة دمشق على أعلى المستويات، خاصّة بعدما تبيّن أنّ خطوط التهريب لا تزال فاعلة، وأنّ الأراضي السوريّة تُستخدم ممرّاً دائماً للأسلحة الاستراتيجيّة. بالنسبة للحكم الجديد، تُعرّض هذه الأنشطة البلاد لضربات إسرائيلية محتملة، وتُقوّض مشاريع التهدئة والانفتاح التي يعمل عليها النظام في علاقاته الإقليمية.

بالمقابل تلفت المصادر الأمنيّة السوريّة لـ”أساس” إلى أنّ التحقيقات الأولى في أحداث السويداء تشير إلى تدخّلات أجراها كوادر وعناصر من “الحزب” مع بعض القوى في السويداء من أجل تحريضهم بشكل مباشر على التمرّد، وأنّ دمشق وضعت الأطراف العربية والدولية في أجواء ما تمتلكه من معلومات مكثّفة عمّا جرى، وتحديداً لناحية ما يثبت تدخّلات “الحزب” في الأحداث المتفرّقة في البلاد.

في الإطار نفسه، تشير المعلومات إلى أنّ “الحزب” على الرغم من أدائه الميداني منذ سقوط النظام السابق، سعى إلى إرسال إشارات إيجابية تجاه الحكم الجديد، وذلك عبر وسطاء لبنانيّين وعرب، لكنّها قوبلت بالرفض المطلق، وهو ما يؤكّد الموقف الراسخ للدولة السورية من “الحزب”، ما دام في الخندق نفسه، ويقود خطاباً متوتّراً تجاه العرب ودول الخليج.

الهرمل والسّاحل: اشتباك أمنيّ صامت

ربّما التطوّر الأبرز الذي أثار امتعاض دمشق وزاد من حدّة تخوّفاتها، ما كشفته أجهزة الاستخبارات السورية أخيراً من إحباط تحرّكات عسكرية مشبوهة في مناطق من الساحل السوريّ، يُعتقد أنّها كانت مقدّمة لنشر نقاط أو مستودعات غير مصرّح بها.

أشارت مصادر أمنيّة سورية إلى أنّ التحقيقات قادت إلى خيوط ارتباط مباشرة بين هذه التحرّكات وغرفة عمليّات في منطقة الهرمل داخل لبنان، يُشرف عليها عناصر وكوادر ميدانيون من “الحزب”، دون علم أو تنسيق مع القيادة العسكرية السوريّة.

دفعت المعلومات المؤكّدة عن هذه الحادثة دمشق إلى تصعيد أمنيّ داخلي وإرسال رسائل مباشرة إلى أطراف لبنانيّين وعرب تؤكّد أنّ “الحزب” تجاوز الخطوط الحمر. وتمّ إصدار توجيهات مباشرة بإعادة ترتيب خطوط الدفاع والمراقبة في الساحل، وتجميد أيّ نشاط غير رسمي مهما كانت خلفيّته أو الغطاء الذي يستخدمه.

وضع هذا السلوك من قبل “الحزب” نهاية فعليّة لِما كان يُروِّج له بعض صحافيّي “الحزب” ومحلّليه من إمكان “فتح صفحة جديدة” مع الحكم السوريّ الجديد. فالتحقيقات الأمنيّة، والتحرّكات التي وُصفت بالعدائيّة، ومراكمة التجاوزات، عزّزت لدى القيادة السوريّة الجديدة تصوّراتها أنّ “الحزب” بات يميل أكثر لمعاداة سوريا لخلق مساحات تحرّك مستقبلية، وأثبتت لدمشق أنّ “الحزب” لا يزال يتعامل معها كمساحة عمليّات لا كدولة ذات سيادة.

بحسب مصادر سوريّة رفيعة، تعتبر القيادة في دمشق أنّ مشاغبة “الحزب” على الأرض السوريّة باتت تحدّياً علنيّاً للسلطة الجديدة ومحاولة لإبقاء سوريا رهينة لمعادلات ما قبل 2011.

ضبط الحدود… استراتيجية تحوّليّة

في ضوء كلّ ما تقدّم، باشرت دمشق تنفيذ خطّة شاملة لضبط الحدود مع لبنان، تتضمّن:

  • نشر وحدات عسكرية جديدة من الجيش والقوى الأمنيّة في النقاط الحدوديّة الحسّاسة.
  • الاستعانة بتقنيّات مراقبة متطوّرة بدعم خليجي وغربي.
  • تفكيك شبكات التهريب، وملاحقة المتورّطين، سواء كانوا من النظام السابق أو من الميليشيات الحليفة لإيران.
  • إعادة تموضع مستمرّة للقوى الأمنيّة المحليّة لفرض انضباط كامل للحكم الجديد.

تؤكّد المعلومات أنّ الأجهزة الأمنيّة السورية تُجري مسحاً يوميّاً للحركة في المناطق الحدودية، وتسجّل وتلاحق أيّ اتّصال بين جهات لبنانية مشبوهة وجهات داخلية.

لا يُعبّر هذا التحوّل في النظرة عن تبدّل في المصلحة السياسية فقط، بل عن استعادة الدولة السوريّة شيئاً فشيئاً لعناصر سيادتها، وإعادة تحديد من هو الحليف ومن هو المتسلّل.

تُفكّك دمشق اليوم بصمت موروثات التحالفات السابقة، بعد الخروج من عباءة “الممانعة” و”الحزب”، الذي لم يُعدّل في سلوكه، ويجد نفسه وجهاً لوجه أمام حكم جديد لم يعد يُسايره، بل يُراقبه، ويضبط حركته، وربّما في لحظة مقبلة… يواجهه.

«أساس ميديا»