الحلقة 15
د. عماد فوزي شُعيبي
نتابع النصائح النفسية الموجهة إلى كبار القادة والإداريين، وذلك من بعض ما أتى في كتابنا القواعد النفسية للسلطة في نسخته الجديدة المعدلة بشكل جذري!
تلطّى… لعدوك
لا تُجْهِد وتستنفِد نفسك بمعركة مع عدو قوي للغاية.
نعم، تلطّى واختبئ وناور…ثم
استدرجه إلى فخ تنصبه له، عندما تكون بأعلى قوتك. وسيكون من السهل الإجهاز عليه.
القاعدة: لا تدخل مواجهة مباشرة مع عدو قوي، ناور وانصّب له فخاً.
مثال سياسي:
هوشي منه في حرب فيتنام، لم يدخل في معارك مباشرة مع أمريكا، بل استخدم حرب العصابات، والكرّ والفرّ، حتى أنهك الأمريكيين وجرّهم إلى مستنقع الاستنزاف.
مثال إداري: شركة صغيرة لا تدخل بمنافسة تسويقية مباشرة مع عمالقة السوق، بل تبني قاعدة عملاء وفية في قطاع متخصّص niche، إلى أن تأتي لحظة القوة.
***
لا تُسْتَنْزف… في المعارك
إذا قررت الصِدام مع أحد -لا فائدة من كسبه بلا قتال- اختر الأسلوب المناسب للموقف بذاته. اضرب بشكل مفاجيء وبقوتك القصوى حتى لا تضطر لقتال فيه استنزاف لك.
الضرب السريع والمفاجئ يسبب الرعب والفزع لدى العدو ويفقده قدراته. اتركه يجري ولكن… لا تترك له فرصة ليختبئ. وعندما تجد نفسك مُستنزفاً انسحب حتى لا تُكثِر من خسائرك.
مثال:
عملية عاصفة الصحراء” – غزو العراق للكويت (1991)
السياق:
بعد غزو العراق للكويت، قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً لاستعادة الكويت.
ما فعلته القوات الأمريكية:
•شنت حملة جوية مدمّرة مفاجئة استمرت 40 يومًا، قبل أي قتال بري.
•وعندما بدأت العمليات البرية، استمرت فقط 100 ساعة.
•الهدف: حسم المعركة بسرعة دون التورّط في حرب مدن أو استنزاف طويل.
النتيجة:
•تحققت الأهداف خلال أيام، دون وقوع قوات التحالف في فخّ الاستنزاف داخل العراق.
•يقال إنها تركت بغداد دون احتلال لتجنّب استنزاف أكبر. هنالك تحليلات أخرى أيضا ولكن هذه النتيجة.
الدلالة على القاعدة:
•ضربات خاطفة ومركّزة.
•لم يُغامروا بالدخول إلى “عشّ الدبابير”.
•انسحبوا عندما تحققت أهدافهم دون التورط في صراع طويل.
المثال التجاري والتقني : شركة Apple وانسحابها من سوق الشبكات اللاسلكية (AirPort Routers)
السياق:
كانت Apple قد دخلت سوق أجهزة التوجيه اللاسلكي (Wi-Fi routers) بمنتجات AirPort، لكنها واجهت منافسة ضارية من شركات متخصصة مثل Netgear وTP-Link وGoogle Wi-Fi.
ما فعلته Apple:
•أطلقت منتجات قوية ومبتكرة في البداية، مثل AirPort Extreme، وسوّقتها بشكل مفاجئ بتقنيات جديدة.
•لكنها لم تستنزف جهودها في صراع مع شركات لا يمكنها التفوق عليها في هذا المجال ذي الهامش الربحي المحدود.
•فاختارت الانسحاب من السوق عام 2018 والتركيز على منتجاتها الرئيسية (iPhone، Mac، خدمات Apple TV وiCloud).
الدلالة على القاعدة:
ضربت في السوق في البداية بمنتج مفاجئ، ثم انسحبت عندما أصبح السوق استنزافيًّا لا يستحق الاستثمار المستمر، فحافظت على تركيزها ومواردها.
المثال الثاني: شركة Netflix في سوق الصين
السياق:
Netflix شركة عالمية في بث المحتوى، حاولت التوسع عالميًا، لكنها تجنّبت التوسع الكامل في الصين رغم ضخامة السوق.
ما فعلته:
•كانت تعلم أن السوق الصيني يخضع لقيود رقابية صارمة وتشريعات مرهقة.
•بدلاً من خوض معركة استنزافية في الرقابة والتنافس مع منصات محلية مدعومة (مثل iQIYI وTencent)، عقدت شراكات محدودة وبثّت بعض المحتوى عبر منصات صينية.
•ولم تدخل السوق بكامل طاقتها أو تستثمر بشكل مباشر.
الدلالة على القاعدة:
قررت Netflix ألا “تُستنزف” في بيئة صعبة سياسيًا وتنظيميًا، فاختارت أسلوبًا مرنًا منخفض المخاطر دون مجازفة بالصدام المباشر مع سلطة أقوى أو بيئة غير ملائمة
***
حذارِ مُغالطة الانحياز للمنتصر
عندما تنتصر سينحاز كثير من الناس إليك. فلا تُصدق ذلك الانحياز على أنه نهائي. فعندما يحتدم الصراع يكون بعضهم في حيرة ويتصيدونك، بل يرون الأخطاء، وعندما ينجلي غبار الصراع، ويُسفر عن منتصر وخاسر، يميل هؤلاء إلى المنتصر ويتماهى البعض به. وتبدأ سلسلة من تبرير الأخطاء التي كانوا لتوهّم يرونها كذلك، ليُضفوا عليها محمولاتٍ من القيم المُضافة التي تجعلها [فضائل] لم تكن بالحسبان وعبقرية لم تُدرك في أوانها. ولهذا فالهزيمة يتيمة وللنصر مليون أب.
فالبشر عموماً تستثيرهم زهوة النصر.
لا تقنع نفسك بما يبررونه.
القاعدة: لا تنخدع بمن حولك بعد النصر؛ فالموالون اليوم قد ينقلبون غداً.
مثال:
صدام حسين بعد نجاحه في قمع الثورة الشعبية عام 1991 ظن أن الأجهزة التي صنعها من حوله مخلصة دائمًا، لكنها انهارت سريعًا في 2003، لأن ولاءها كان هشًّا ومن أجل “المنتصر” فقط.
وقد تكرر المشهد مع قادة طغاة آخرين كانوا يظنون أن الولاء لهم كبير، عندما توهموا أن نجاحهم في بعض المعارك يعني انتصاراً في الحرب، والفرق بينهما كبير، و ظنوا أن هذا يمنحهم الولاء المفتوح فوقعوا في شرّ تصورهم؛ لأن الولاء الناجم عن الانتصار مهما كان مؤقت!
مثال إداري:
مدير مشروع نجح في إطلاق منتج واعتقد أن فريقه مؤمن به بالكامل، ففوجئ عند أول أزمة بانسحاب معظم الفريق، لأن الانحياز كان فقط نتيجة النجاح، لا القناعة.
***
التلطّي!… للحملات
عندما يشنّ عدوك حملةً ضدك. لا تلتفت إليها ولا تعلّق، وإلاّ أصبحتَ جزءاً منها.
وتذكّر أن القافلة تسير والكلاب تنبح. وكلّ استهداف ينال منك … له نهاية.
القاعدة: لا تُجب على الحملات الإعلامية أو الهجمات، فذلك يعطيها قيمة.
مثال سياسي:
1. نيلسون مانديلا تجاهل الحملات التي كانت تصفه بالإرهابي في بداية حياته السياسية، وركّز على العمل بصمت حتى نضجت اللحظة التاريخية.
2. فلاديمير بوتين وتجاهل الإعلام الغربي في الأزمات الأولى.
السياق:
في بداية حكمه، تعرّض بوتين لهجمات ضخمة من الإعلام الغربي بعد أحداث الشيشان الثانية، ثم قضية الملياردير “خودوركوفسكي”.
ما فعله:
•لم يردّ مباشرة، بل تجاهلها إعلامياً.
•ركّز على بناء أجهزة الدولة الداخلية وتعزيز السيطرة.
•أي تعليق كان يصدر يتم بصوت منخفض وعبر متحدثين غير مباشرين.
النتيجة:
•الحملات فقدت زخمها تدريجياً، خاصة لدى الجمهور الروسي.
•لم يتحوّل هو إلى موضوع دائم في الجدل الإعلامي، بل ظهر كرجل “هادئ في العاصفة”.
الدلالة:
عدم الردّ جعل الهجوم بلا معنى، فتوقف تدريجياً، وبقيت صورته قوية داخلياً.
ملحق إداري:
1. ستيف جوبز وحملة “أبل تنهار” (1997)
السياق:
عندما عاد جوبز إلى أبل، كانت الشركة في وضع شبه منهار، والإعلام يشنّ حملة مفادها: “انتهت أبل”.
ما فعله:
•لم يردّ مباشرة.
•لم يدخل في تصريحات أو دفاع عن تاريخ الشركة.
•بل أطلق بعد أشهر إعلانًا ملهِمًا بعنوان: Think Different.
النتيجة:
تحوّلت الحملة ضده إلى وقود لصعوده، لأنه لم يمنحها شرعية الرد، بل غيّر السردية بالكامل لصالحه.
2. شركة تُتهم على وسائل التواصل بخطأ صغير، لكن بدلاً من الرد والتبرير (مما يضخم الحدث)، تختار الصمت المؤقت وتقديم تحسّن فعلي في الخدمة لاحقًا.
القاعدة التدريبية المقترحة:
“إذا علّقت على هجومٍ، فأنت تكون قد اعترفت به. وإذا تجاهلته، جعلته يتيماً بلا مَعنى. القائد لا يرد على كل نباح، بل يُصمّم طريقاً تمضي فيه القافلة.
***
من لا أعداء له… شخصٌ عابرٌ
لا يصلح الاستغناء حتى عن الأعداء. فمن لا أعداء لديه باهت ولا معنى له. والأهم أن تعرف متى تشتبك ومتى تتربص بالأعداء، ومتى تدخل هدنة طويلة معهم. فالحياة صراع ومن لا يصارع لا يمارس العمل العام. ابقَ في الظل أأمن لك.
القاعدة: الأعداء دليل على الوجود والفاعلية. لا يجب القضاء عليهم بل إدارتهم.
مثال سياسي:
ونستون تشرشل قال: “إن كان لك أعداء، فهذا لأنك قلت الحقيقة في وقت ما”. لم يكن تشرشل يخشى الأعداء بل كان يعرف أن وجودهم ضروري لوضوح موقفه.
مثال إداري: رجل أعمال له منافسون كُثر في السوق. اعتبر أن وجودهم يُثبت أنه في موقع مؤثّر ويخلق حالة من التحدي والإبداع المستمر، وليس راحة وركود. وهذا ما سبب له النجاح. انه ماسك.
د. عماد فوزي شُعيبي