الحلقة 21
د. عماد فوزي شُعيبي
نتابع عرض الرسائل لكبار القادة السياسيين والإداريين وذلك من كتابنا القواعد النفسية للسلطة بعد التعديل.
استهلك الوقت… واربح المفاوضات والزمن
“الزمن هو النار الذي نحترق فيه، لكنه أيضاً الحليف الذي ننتصر به.” – ديليب بارديو
خذ وقتك في التفاوض، ولا تستعجل التوصل إلى النتائج. فكلما أطلت التفاوض أنهكت الخصم.
المساومة لعبة تقضم فيها الوقت وتربح فيها الزمن وما تريد. فالوقت أي الدقائق والآنيات ضدك، و لكن الزمن يجب أن يكون معك.
كلما أطلت أمد التفاوض، أضعفت خصمك وكسرت صبره. فالوقت اللحظي قد يكون ضدك، لكن الزمن الاستراتيجي معك.
أمثلة سياسية:
- مفاوضات البريكست (بريطانيا والاتحاد الأوروبي): استخدمت بريطانيا المماطلة لتعديل شروط الخروج.
- اتفاق أوسلو: إسرائيل استهلكت الوقت لكسب نقاط على الأرض بينما تفاوض الفلسطينيون على الدولة.
أمثلة إدارية:
- استحواذ أمازون على Whole Foods: أمازون أجّلت الإعلان حتى حُسمت كل التفاصيل بما يضمن أفضل شروطها.
- جوجل في مفاوضاتها مع Oracle حول الجافا: استخدمت استهلاك الوقت لكسب رأي قانوني في صالحها.
تحليل تطبيقي:
استخدم الإطالة كمطرقة نفسية لاستنزاف الخصم وجعله يقبل ما لم يكن ليقبله بداية. وازن ذلك بعدم فقدان الزخم أو ظهور التردد.
***
كنْ رجل الربع ساعة الأخيرة
“الذكاء ليس أن تملك الورقة الرابحة، بل أن تعرف متى تلعبها.” – فرانسيس بيكون
في كل شيء في السلطة، وخاصةً في التفاوض، لا تُفصح عما لديك.
كن رجل الربع ساعة الأخيرة، واترك الطرف الآخر هو الذي يعرض ويقدم، ولا تقدم أنتَ شيئاً مما أنت مستعد لتقديمه مُبكراً.
احتفظ بأوراقك حتى اللحظة الأخيرة. لا تكشف ما لديك إلا بعد أن يكشف الطرف الآخر مواقفه وحدوده.
أمثلة سياسية:
- الولايات المتحدة في مفاوضات NAFTA: أعادت ترتيب الأولويات في اللحظة الأخيرة لانتزاع شروط جديدة.
أمثلة إدارية:
- ستيف جوبز: لم يُفصح عن قدرات iPhone الكاملة إلا في العرض النهائي بعد أسابيع من الشائعات.
- مفاوضات شراء LinkedIn من مايكروسوفت: الكشف عن العرض النهائي تم بعد مماطلة وهدوء نسبي في اللحظات الأخيرة.
تحليل تطبيقي:
الاحتفاظ بالمفاجآت في النهاية يخلق تأثيراً مضاعفاً ويمنحك أفضلية نفسية تُربك الخصم وتضعه في موقف المُستجيب لا المُبادر
***
لا تربط بين كلّ ما تفاوض عليه
“الكل ليس أكثر من مجموع الأجزاء، لكنه ليس مساويًا لها دائمًا.” – أرسطو
كل موقف جديد في مسار المفاوضات هو موقف منفرد عن باقي مواقف التفاوض الأخرى؛ بمعنى أنك أثناء المفاوضات إذا تطرقت إلى عدة موضوعات فلا تربط بينها. فاوض على كل موضوع وكأنه هو مُبتدى ومنتهى المفاوضات.
عند تعدد الملفات، عالج كل ملف على حدة، دون ربط يجعل التنازل في واحد يستلزم التنازل في الآخر.
أمثلة سياسية:
- الصين وأمريكا: فصلت بكين قضايا التجارة عن قضايا الأمن والتايوان لتكسب بكل ملف على حدة.
- اتفاق لوزان مع إيران: فصلت الدول الغربية الملف النووي عن الصواريخ وحقوق الإنسان.
أمثلة إدارية:
- مفاوضات عقود الطيران بين Airbus وشركات الطيران: فصل كل بند (التسليم، التدريب، الدعم).
- ماكدونالدز ومزودي الأغذية: التفاوض على المواد الخام منفصل عن الشحن والتخزين.
تحليل تطبيقي:
الربط بين الملفات يُضعف موقعك؛ فكل موضوع يحتاج تكتيكاً خاصاً وتقديراً مختلفاً لميزان القوة فيه.
***
لا مواعيد نهائية بالمفاوضات
“الزمن أداة للضعفاء، لكن السيطرة عليه ميزة الأقوياء.” – نيتشه
تجنب الاستسلام (لهستيريا!) المواعيد النهائية التي قد يطرحها خصمك عليك؛ إذا لا مواعيد نهائية في المفاوضات. ولا تخشَ من الانصراف بدون اتفاق؛ فما أن تبدأ المفاوضات، فإنها محكومة ولو بعد أجل طويل بالوصول إلى نتائج.
لا تخضع لضغوط التوقيت، المواعيد النهائية تخلق وهماً نفسياً. لا توافق على اتفاق تحت ضغط الوقت.
أمثلة سياسية:
- مفاوضات إيران مع 5+1: انتهت المدة الأصلية لكن المفاوضات استمرت حتى أُنجز الاتفاق.
- مفاوضات باريس 1919: تجاوزت الوقت المحدد واستمرت لصياغة اتفاقيات معقدة.
- كوبا والصواريخ: رغم أزمة الوقت، حافظ خروتشوف وكينيدي على اتزان المفاوضات حتى اللحظة الأخيرة
أمثلة إدارية:
- صفقة Dell-EMC: تجاوزت الوقت المحدد أكثر من مرة لصياغة بنود تفصيلية حساسة.
- مفاوضات Tesla في الصين لبناء مصنع: استمرت المفاوضات لأشهر بعد المهلة المتوقعة.
تحليل تطبيقي:
لا تجعل الخصم يتحكم بالساعة؛ لا تقبل أن تكون “الساعة” طرفًا ثالثًا بالمفاوضة، لأنك ستكون أضعف أطرافها
***
سباق المفاوضات الطويلة
“كل تنازل ليس مدروسًا هو علامة على التعلق لا على القوة.” – آلان دو بوتون
لا تُخْدَع بمقولة خصمك بأنه قد قسم معك الكعكة التفاوضية، وقابلك في منتصف الطريق وأنه يطالبك بالقيام بتقديم مقابل لما قدمه. لا تعتبر عرضه الذي قدّمه هو عرضه النهائي وتابع المساومة من هذه النقطة التي وصلتماها؛ بمعنى أنه إذا اقترب منك –فعلاً- إلى منتصف الطريق.
أشعره بأنه لا يزال في نقطة البداية.
المفاوض الذكي لا يُظهر مرونةً طويلة النفس. فعلى المستوى اللاواعي، إن أبقيت مرونتك ممتدة دون سقف، اعتُبرت ساذجًا أو ضعيف الإرادة. يجب أن توحي للطرف الآخر أن حدود مرونتك ضيقة ومحدودة وأن ما قدمته هو أقصى ما يمكن أن تقدمه. هذا يولد ضغطًا مضادًا عليه، ويقربك من انتزاع ما تريد.
نقطة نفسية دقيقة: المفاوض ليس ممثلاً يُجيد “لعب” دور المتشدد فقط، بل يجب أن “يعيش داخلياً” هذا الموقف حتى يتصرف بناء عليه بلا تردد أو ارتباك، وهنا الفارق بين التكتيك والعمق.
أمثلة سياسية تفاوضية:
- هنري كيسنجر في مفاوضات فك الاشتباك (1974): قدم عرضاً واحداً للسوريين ثم أوحى بأنه بلغ حده، فمارس الضغط بالتوقيت (قبل زيارة نكسون) ليُنتزع الاتفاق.
- معاهدة فرساي: الحلفاء قدموا عرضًا واحدًا لألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى ولم يتراجعوا عنه، رغم مفاوضات طويلة. فهم أن الألمان ليس أمامهم خيارات.
- أردوغان في مفاوضات السويد للانضمام للناتو (2023): قدّم شروطه (تسليم مطلوبين، ووقف دعم الأكراد) وقال بوضوح إنها “الحد النهائي”، فحصل على تنازلات أوروبية.
أمثلة إدارية وتجارية:
- شركة Adobe عند بيع Creative Suite: في مفاوضات البيع المؤسسي، تعلن عروضها مباشرة على أنها “غير قابلة للتفاوض” وتستعمل “نفاذ المرونة” كأداة تسويق ضغط.
- Toyota في مفاوضات أسعار مع الموردين: تقدم ما تسميه “عرض الهامش الأقرب للصفر” في البداية، وتُشعر الطرف الآخر أن أي ضغط إضافي سيُخرج الصفقة من الجدوى الاقتصادية.
التحليل التطبيقي:
- في عالم المفاوضات، التنازلات المبكرة تعني انفتاح الباب لمزيد من الاستنزاف.
- الأفضل أن تبدأ بموقف يبدو فيه أنك قدمت أقصى ما تستطيع، ثم إن تطلب الأمر تنازلاً لاحقًا، فليكن صغيرًا جدًا وبثمن كبير.
- كن واضحاً في لحظاتك الأولى، كي لا يفهم خصمك أنك مستعد “للتراجع بلا نهاية”
د. عماد فوزي شُعيبي