الحلقة 25
د. عماد فوزي شُعيبي
نواصل سرد النصائح التي تقدم إلى كبار القادة وكبار الإداريين وذلك بلا اعتماد على كتابنا القواعد النفسية للسلطة في تعديلاته الجديدة.
هنا نتابع قواعد المفاوضات:
مهما قدّم … اطلب بمرونة
“الطلب المستمر لا يعني الطمع، بل يعني أن الفهم لا يتوقف عند أول عطية.” – باروخ سبينوزا
إذا بدأت المقايضة (الأخذ والعطاء)، كن مرناً ولكن لا تعتبر أن مرحلة المقايضة قد انتهت بما قدمه الآخر. استمر في الاستماع وطرح الكثير من الأسئلة وقلْ أشياءَ متنوعة تقلّل من توقعات خصمك، وعندما يبدأ التبادل أطلب مقابل ما ستقدمه تنازلاً مكافئاً وارفع سقف مقابل هذا التنازل.
المرونة تعني القدرة على طلب المزيد دون نسف العلاقة أو إظهار الطمع.
أمثلة تفاوضية سياسية:
مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)
رغم تقديم بروكسل عدة تنازلات لبريطانيا، واصلت تيريزا ماي وجونسون المطالبة بالمزيد كـ”حقوق سيادية”، مستخدمين أسلوب “المطالبة المرنة” دون خرق الإطار العام.
اتفاق أوسلو – لاحقًا مفاوضات طابا (2001)
رغم تقديم الطرف الإسرائيلي بعض التنازلات، واصل الفلسطينيون الضغط الدبلوماسي عبر طلبات مرنة إضافية تتعلق بتقاسم القدس والترتيبات الأمنية.
مفاوضات معاهدة فرساي (1919)
استمر الحلفاء، خصوصًا فرنسا، في طلب المزيد من ألمانيا رغم ما قدمته، مستخدمين أسلوب المقايضة المستمرة دون كسر التوازن في المؤتمر.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
شركة Netflix في تفاوضها مع منتجي المحتوى المستقلين
بعد كل عرض من المنتجين، كانت Netflix تطلب تعديل شروط الأسعار أو حصرية البث، بأسلوب يبدو ودوداً لكنه مصمم للحصول على أقصى ما يمكن دون كسر الثقة.
تفاوض أمازون مع موزّعيها الصغار
كانت تطلب تحسين الشروط حتى بعد موافقتهم، مستخدمة أدوات تحليل البيانات لإثبات أن هوامش الربح لا تزال قابلة للتفاوض، ولكن بهدوء ومرونة.
تحليل تطبيقي:
في المفاوضات الذكية، التنازل من الطرف الآخر ليس النهاية بل بداية جديدة لجولة مقايضة. عليك أن تُظهر تقديرك لتنازله، لكن تُقلّل من وزن ذلك التنازل بالمقارنة مع الصورة الكبرى، ومن ثم تطلب مكاسب إضافية. المفتاح هو أن تطلب بمسؤولية، لا بوقاحة، وأن تُشعر الطرف الآخر بأنه ما زال في موقع المبادرة
***
امدح تنازلاته… لتُعزِزها
“المدح في موضعه ليس نفاقًا، بل استثمار في بناء الثقة.” – نيكولو مكيافيللي
كل تنازل هو أساس لآخر، إن عرفت كيف تباركه بذكاء.
امدح سلوك خصمك عندما يبدأ بالتنازل بمدح تنازله. أوجِد مدخلاً مبتكراً، فأنت من ناحية ستعطيه انطباعاً بأنه قدّم لك شيئاً مبتكراً ولكنك ستجعله يقتنع بأنه لم يقدِّم إلا مدخلاً، لما هو آتٍ؛ أي محض بداية.
عندما يبدأ الطرف الآخر بتقديم تنازلات، امدحها فورًا — ليس لأنها عظيمة، بل لتُثبّت سلوك التنازل في نفسه وتُعزّز استمراره. امدح الفعل لا الشخص، وأشعره أن تنازله مدخل مبتكر لما هو قادم، مما يجعله أكثر استعدادًا لتقديم المزيد دون أن يشعر بالخسارة.
أمثلة تفاوضية سياسية:
مفاوضات كامب ديفيد (1978)
عندما قدم السادات تنازلات، سارع كارتر إلى مدحه كمبادِر “شجاع” للسلام، مما جعله يستمر في تقديم المزيد من التنازلات المدروسة، دون أن يشعر بالإذلال أو التراجع.
اتفاق النووي الإيراني (2015)
عندما قبلت إيران بتقليص نسبة تخصيب اليورانيوم، أثنت الدول الغربية فورًا على هذا “الاختراق الفني الكبير”، مما فتح الباب لمزيد من المرونة الإيرانية، وخلق بيئة تفاوض إيجابية.
مفاوضات استقلال الجزائر (إيفيان 1962)
كلما قدم ديغول تنازلات، بادر قادة جبهة التحرير الوطني إلى مدح “حكمته وتبصّره”، حتى حين كانوا ينوون المطالبة بأكثر من ذلك.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
تفاوض Microsoft مع Activision قبل صفقة الاستحواذ (2022)
عندما بدأت Activision في تعديل شروط السعر، مدحت Microsoft المرونة “الاستثنائية” للإدارة، مما شجّعهم على تعديل بنود الترخيص والتوزيع أكثر.
Apple وشركات توريد الرقاقات
حين بدأت الشركات مثل TSMC بإعطاء مرونة في الجداول الزمنية، امتدحت Apple هذه “الشراكة النموذجية” مما جعل الموردين يُظهرون ليونة إضافية لاحقاً في الأسعار والتسليم.
تحليل تطبيقي:
في التفاوض، المدح هو أداة تكتيكية. ليس هدفك التملّق، بل دفع خصمك إلى أن يَرى تنازله وكأنه هو من يملك زمام المبادرة، ما يدفعه تلقائياً إلى استمرار هذا السلوك. امدح التنازل، وليس الشخص. امدح “ذكاءه الاستراتيجي”، لا “كرمه”. وبهذا تُعيد تشكيل الموقف التفاوضي لصالحك دون إثارة دفاعات الخصم
***
بالخلاف الشديد، حاول أن توجِّهَه نحو المستقبل لكليكما
“لا يمكن حلّ مشكلة بنفس طريقة التفكير التي صنعتها.”
– ألبرت أينشتاين
عندما يقع اختلاف شديد قد يفضّ المفاوضات أكّد لخصمك أن عليكما معاً التطلع إلى المستقبل بدلاً من الوقوف عند الماضي، وبهذا تثير شهيته نحو الغد، مما يجعله يتوق إلى ذلك الغد.
عندما تصل المفاوضات إلى نقطة خلاف شديدة، لا تُصرّ على حسم الخلاف على الفور. بدلًا من ذلك، حرّك عقل خصمك نحو المستقبل المشترك الممكن لكليكما. فكر في الأفق القادم بدلًا من التشبّث بالماضي؛ المستقبل يفتح احتمالات، أما الماضي فيغلقها ويغذّي العناد.
أمثلة تفاوضية سياسية:
مفاوضات جنوب أفريقيا لإنهاء نظام الفصل العنصري (1990–1994)
عندما وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود، قال نيلسون مانديلا مخاطباً دي كليرك: “دعنا لا نضيع لحظة أخرى من مستقبل بلدنا في اجترار ما مضى.” فتح هذا الأفق آفاقًا جديدة وقاد إلى تسويات خلاقة.
قمة هلسنكي بين ريغان وغورباتشوف (1986)
رغم فشل الاتفاق على نزع الأسلحة النووية، ركّز الطرفان على “بناء أرضية للجيل القادم”، مما مهّد لاتفاقيات لاحقة مثل معاهدة ستارت.
مفاوضات غود فراداي بين البريطانيين والجمهوريين الإيرلنديين (1998)
عندما تعذّر الاتفاق على آلية نزع السلاح، تم تحويل النقاش إلى “كيفية إدارة المستقبل المشترك بإرادة سياسية جديدة” بدلًا من معالجة الجراح السابقة، مما كسر الجمود.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
IBM وRed Hat في صفقة الاستحواذ (2018)
عند وصول الخلاف حول استقلال Red Hat إلى ذروته، نقل الطرفان النقاش إلى كيف يمكن لـ”التكامل المستقبلي” أن يخدم كلا الطرفين، بدلاً من محاسبة الماضي أو شروط السيطرة.
شركة Disney وPixar قبل الاستحواذ الكامل (2006)
وصل النقاش إلى مأزق حول السيطرة الإبداعية، لكن تم تجاوزه بالتركيز على خلق مستقبل “مشترك” لصناعة أفلام الأنيميشن، مما غيّر النبرة التفاوضية كليًا
تحليل تطبيقي:
في لحظات التوتر الحاد أو الجمود، يكون الحديث عن “الماضي” محفزاً للعداوة. المفاوض الذكي يلتقط الإشارات ويغيّر المسار بطرح سؤال مستقبلي: “ماذا نريد أن يكون شكل الوضع بعد 5 سنوات؟”
هذا النوع من التحويل الذهني يُعيد ضبط العلاقة من حالة “اتهام متبادل” إلى “تخطيط تشاركي”، ويمنح كلا الطرفين مساحة للكرامة والخروج الآمن
د. عماد فوزي شُعيبي