من عقود طويلة ونحن نستمع، في «أسبوع الآلام» ولا سيما يوم الجمعة العظيمة، الى أيقونتنا السيدة فيروز ترنم على مسامعنا «أنا الأم الحزينة»… لترافق هذه الترتيلة الخالدة دخولها، أمس، الى كنيسة رقاد السيدة العذراء في المحيدثة – بكفيا، ثم لتنتقل الى صالون الرعية فتستقبل المعزين بمشاركة كريمتها ريما والأسرة الرحبانية، حيث دلف الآلاف من المعزين الذين أسمح لنفسي أن أطلق على حشودهم صفة الصدق الخالص المصفّى… فهؤلاء قادهم حبهم لزياد الحقيقي الصافي المنقّى الى أن يعبروا عن مشاعر كلٍ منهم الشخصية النابعة من القلب والوجدان والحسرة والحزن والألم…
هؤلاء الذين جاءوا من مختلف أنحاء لبنان، ومن بلدان الإقليم والعالم البعيد لم يقصدوا منفعة شخصية أو هدفاً ذاتية، إنما كانوا يعبرون عن قهر على الغياب المبكر لهذا الفنان الاستثنائي الذي خاطبهم، من خلال أعماله الفنية الخالدة، بلغتهم البسيطة والمباشرة البعيدة عن التعقيد والفذلكة وأيضاً الخالية من السفسطة والثرثرة الفارغة، وليثبت أن اللهجة اللبنانية المحكية لها من السعة والقدرة ما يمكّنها أن تتسع الى الأفكار العميقة وأن تلامس حدود الفلسفة والوجودية الواقعية.
لقد أردتُ أن أبتعد عن الخوض في تعداد المواهب ومعالم إبداع زياد الرحباني لأن الذين كتبوا وتحدثوا ونشروا في هذا الفنان الكبير لم «يغادروا من متردّم»، فقط أنا أكتب من حبي لما قدّمته هذه الموهبة الكبرى، التي هي نسيج وحدها، ما سيبقى الى أجيال وأجيال وأجيال في الوجدان الإنساني، الذي انطلق به من الواقعية اللبنانية لينتشر في العالم كله.
ولا يساورني أي شك، ولو في حدّه الأدنى، بأن الأسلوب الذي تعاملت به وسائط الإعلام العالمي مع رحيل زياد قلّما يحظى بمثله كبار الرجال والقادة. فزياد، ابن هذا الوطن الصغير الغارق في الأزمات والخائف على المصير، كان نبأ وفاته الأليم «تراند» عالمياً: أمهات الأقنية التلفزيونية ومواقع التواصل الاجتماعي العالمية وأيضاً الصحف، وكذلك وكالات الأنباء الأولى الأميركية والفرنسية والبريطانية والإيطالية والروسية الخ… وهذه ليست مجرّد مصادفة، إذ إنها إقرار بأهمية إنتاجه المتألق ودوره القيادي (وأُصرُّ على وصف القيادي) من خلال الفن الموسيقي والمسرحي والغنائي …
أما أنت أيتها الأيقونة السيدة فيروز فقلوبنا معك، ولكأنك في مأساة إغريقية تقفين شامخة، رغم الحزن الذي يعتصر قلبك، وتتناثر من حولك جواهر أسرتك. فليمنحك الله الصبر والسلوان، وليمد في عمرك أيتها الجوهرة النادرة. مع أحرّ العزاء.
khalilelkhoury@elshark.com