عمر ياغي “الغزّيّ”: ندرة المياه أوصلته إلى نوبل

بقلم إيمان شمص

«أساس ميديا»

رحلة البحث عن الماء التي كان يخوضها يوميّاً في طفولته سيراً على الأقدام يحمل دلاء يجمع فيها المياه لعائلته الكبيرة المكوّنة من 12 شخصاً، هي التي دفعت عمر ياغي اللاجىء الغزّيّ إلى اختراع أطر قادرة على استخراج الماء من الهواء الجافّ، وهو ما سمح له بنيل جائزة نوبل للكيمياء.

كما أغلبيّة اللاجئين الفلسطينيّين المنتشرين في مخيّمات اللجوء عبر العالم، نشأ عمر ياغي الكيميائيّ الفلسطينيّ المولود في الأردن في منزل يفتقر إلى المياه الجارية والكهرباء، فكان عليه إيجاد مصدر لهما، فاخترع مع كيميائيّين آخرين هياكل يمكنها تخزين الهيدروجين والميثان لإنتاج وقود نظيف والتقاط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الصناعية، بالإضافة إلى سحب الماء من الهواء الصحراويّ، فنال معهما جائزة نوبل للكيمياء.

هذا الاختراع يعيده ياغي، أوّل عالم غزّيّ فلسطيني أردنيّ يفوز بجائزة نوبل، إلى معاناة يوميّة للحصول على المياه خلال طفولته في مخيّم اللجوء في الأردن، حيث كانت المياه شحيحة. وصل إلى قمّة مهنته بعد “رحلة معاناة طويلة” بدأت من غزّة وصولاً إلى الولايات المتّحدة الأميركية حقّق خلالها العديد من الإنجازات ونال الجنسيّتين الأميركية والسعوديّة.

العلم أعظم قوّة

“كانت رحلة طويلة، والعلم يُمكّنك من القيام بها. العلم هو أعظم قوّة تُحقّق المساواة في العالم”، قال ياغي لمؤسّسة نوبل في مقابلةٍ بعد فوزه.

من قرية “المسمية” ثاني أكبر قرية في قضاء غزّة، الواقعة على الطريق الذي كان يربط غزّة بكلّ من يافا والقدس، حيث كانت الحياة تدبُّ كلّ صباح مع طلوع تباشير الفرج كخليّة نحل، كما وصفها الرحّالة الأميركي ويليام مكلور طومسون خلال رحلاته الاستكشافية في جنوب فلسطين في سنة 1857، هُجّرت عائلة ياغي بعدما سقطت القرية في 11 تمّوز 1948، خلال عمليّة “آن-فار” التي شنّتها قوّات الاحتلال الإسرائيلي في صيف ذلك العام، وأقامت بعد إعلان تأسيس دولة إسرائيل 4 مستعمرات على أراضيها.

في العاصمة الأردنيّة، حيث استقرّت عائلة ياغي في مخيّم للّاجئين، قبل انتقالها إلى حيّ النزهة في عمّان الذي معظم سكّانه من اللاجئين الفلسطينيّين أيضاً، وُلد عمر عام 1965 ودرس في مدارس وكالة الأونروا.قال في مقابلاته بعد الفوز: “وُلدتُ في عائلة من اللاجئين، نشأت في منزل متواضع جدّاً وكنّا اثني عشر شخصاً نعيش معاً في غرفة صغيرة واحدة، ونتشاركها مع الماشية التي كنّا نربّيها. وكان والداي بالكاد يجيدان القراءة والكتابة. والدي أنهى الصفّ السادس، بينما لم تكن والدتي تجيد القراءة والكتابة”.

“كانت المياه شحيحة، وكان عليّ في صغري جمع المياه لعائلتي الكبيرة ولم نكن نصل إلى مصدر المياه إلّا مرّتين شهريّاً لفترة وجيزة. نخزّن أكبر قدر ممكن من الماء خلال تلك الساعات الأربع، وهذا هو الماء الذي نستخدمه خلال هذين الأسبوعين. إذا نفد الماء كان علينا إيجاد مصدر آخر”، قال سابقاً في مقابلة خلال تسلّمه جائزة تانغ للتنمية المستدامة لعام 2024.

العصا والكرة

عندما كان في العاشرة من عمره، رأى ياغي للمرّة الأولى رسماً بيانيّاً للجزيئات على شكل “عصا وكرة” في مكتبة عامّة في عمّان. اختار كتاباً عشوائيّاً وجد فيه رسومات غريبة ومعقّدة، هياكل جزيئيّة، قال إنّه انجذب إليها على الفور، ولم يعرف إلّا لاحقاً أنّ “هذه الجزيئات هي التي تشكّل عالمنا”، وأنّها هي التي ستجعله يوماً ما ينال جائزة نوبل.

في سنّ الخامسة عشرة، تغيّرت حياة ياغي عندما قرّر والده أن يرسله للدراسة في الولايات المتّحدة. في غضون عام، حصل على تأشيرة. انتقل إلى نيويورك ودرس اللغة الإنكليزيّة في كليّة مجتمع محليّة قبل أن ينتقل إلى جامعة ألباني في عام 1983.

بسبب عدم إجادته اللغة الإنكليزيّة، التحق بكليّة هدسون فالي المجتمعيّة، وكان يعمل لكسب عيشه في تعبئة البقالة في أكياس وتنظيف الأرضيّات. تخرّج بامتياز مع مرتبة الشرف عام 1985، حاصلاً على درجة البكالوريوس في الكيمياء، قبل أن يحصل على درجة الدكتوراه من جامعة إيلينوي في أوربانا-شامبين عام 1990.

بعد زمالة ما بعد الدكتوراه في جامعة هارفرد، بدأ ياغي التدريس في جامعة ولاية أريزونا عام 1992، حيث بدأت أبحاثه الرائدة بالتبلور. انضمّ لاحقاً إلى جامعة ميتشيغان، ثمّ جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس، ثمّ جامعة كاليفورنيا – بيركلي، حيث أصبح مديراً لمصهر الجزيئات وأسّس معهد بيركلي للعلوم العالميّة.

قال ياغي في تقرير صادر عن جامعة كاليفورنيا – بيركلي، حيث يعمل الآن: “كنتُ مغرماً بالكيمياء منذ البداية. وعندما انتقلتُ إلى ألباني، انخرطتُ فوراً في مجال البحث العلمي”.

30 عاماً من الأبحاث

على مدى أكثر من 30 عاماً، طوّر ياغي وزملاؤه أساليب جديدة لدمج المعادن مع الجزيئات العضويّة لبناء مركّبات هجينة. من خلال ربط أيونات المعادن بالجزيئات العضويّة، أنشأ فريقه هياكل منظّمة تشبه الشبكة، عُرفت فيما بعد باسم الهياكل المعدنية العضويّة. نشر في عام 1995 هيكل أولى هذه الموادّ، التي يمكنها استضافة جزيئات أخرى وتتحمّل درجات حرارة عالية.

أعاد هذا الاكتشاف تعريف كيمياء الموادّ. عام 1999، قدّم ياغي مركّب MOF-5، وهو مركّب شديد الاستقرار ذو مساحة سطح هائلة، حيث تحتوي بضعة غرامات منه على ما يعادل مساحة ملعب كرة قدم. يمكن لهذه الهياكل التقاط وتخزين غازات مثل الهيدروجين والميثان لإنتاج وقود نظيف والتقاط انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون الصناعية، بالإضافة إلى سحب الماء من الهواء الصحراويّ الجافّ.

يرى خبراء الكيمياء أنّ اختراعات ياغي تمثّل نقطة تحوّل في مكافحة الجفاف، إذ يمكن لهذه التقنيّة أن توفّر مياهاً نقيّة في المناطق النائية من دون الحاجة إلى شبكات توزيع. العلماء متفائلون بإمكان تعميمها مستقبلاً على الرغم من التكلفة والتحدّيات التقنية والاقتصاديّة.

أشاد رئيس لجنة نوبل للكيمياء بإمكانات هذه المركّبات في إعلان الجائزة يوم الأربعاء، قائلاً إنّها قد تُتيح “فرصاً لم تكن متوقّعة من قبل” في هذا المجال. إذ إنّ للهياكل الجزيئيّة المساميّة التي عمل عليها ياغي والحائزان الآخران على جائزة نوبل في الكيمياء، تطبيقات محتملة مرتبطة بالتحدّيات العالميّة، بما في ذلك تلوّث المياه وانبعاثات غازات الاحتباس الحراريّ.

يُعدّ عمر ياغي الغزّيّ السعوديّ والأردنيّ والأميركيّ ثاني مسلم يُمنح جائزة نوبل في الكيمياء، ووفقاً للتقارير، المسلم السادس عشر في التاريخ الذي يحصل على جائزة نوبل. ومُنح جائزة العقول العربيّة العظيمة في 2025.

أشاد القادة العرب بفوز ياغي. ووصفت السعوديّة ياغي بأنّه “أوّل سعوديّ يحصل على الجائزة”. من جهته، هنّأ الملك عبدالله الثاني، ملك الأردن، العالِم الأردنيّ، قائلاً: “الأردنيون قادرون على إحداث فرق أينما كانوا”.

هنّأ حاكم دبي، نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتّحدة ورئيس وزرائها الذي كرّم ياغي شخصيّاً بجائزة العباقرة العرب العام الماضي، بهذا الإنجاز التاريخيّ، مُشيداً بنجاحه وبالعبقريّة التي تبرز من العالم العربي. وأعادت البعثة الفلسطينية لدى الأمم المتّحدة نشر إعلان لجنة نوبل عن الجائزة.

 جوائز ما قبل نوبل

قبل فوزه بجائزة نوبل، نال عمر ياغي أكثر من 20 جائزة دوليّة مرموقة، منها:

جائزة تانغ في التنمية المستدامة (2024)، جائزة إرنست سولفاي للعلوم المستقبليّة (2024)، جائزة فون هيبل (2025)، وهي أعلى وسام من جمعيّة أبحاث الموادّ، جائزة فين فيوتشر (2021) للإنجازات المتميّزة في المجالات الناشئة، جائزة وولف في الكيمياء (2018)، جائزة الملك فيصل الدوليّة في العلوم (2015)، جائزة غريغوري أمينوف (2019) من الأكاديمية الملكيّة السويديّة للعلوم، جائزة إيني لانتقال الطاقة (2018)، جائزة المياه المستدامة من الجمعيّة الملكية للكيمياء (2020)، جائزة الجمعية الكيميائية الأميركية في كيمياء الموادّ (2009)، وميدالية جمعيّة أبحاث الموادّ (2007).

هو عضو مؤسّس في أكاديميّة العلماء العرب في الكويت في عام 2021، ومُنح الجنسيّة السعوديّة بموجب مرسوم ملكيّ كجزء من برنامج يهدف إلى جذب المواهب العالميّة إلى المملكة. ويحمل الآن جنسيّتين سعوديّة وأميركيةّ بالإضافة إلى الجنسيّة الأردنيّة، ويقيم حاليّاً في بيركلي بكاليفورنيا.

إيمان شمص