لاريجاني من الرّوشة: نريد تغيير القواعد

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

أثنى علي لاريجاني، الأمين العامّ للمجلس الأعلى للأمن القوميّ في إيران، على مبادرة الشيخ نعيم قاسم، الأمين العامّ لـ”الحزب” بشأن فتح “صفحة جديدة” مع السعوديّة والحوار معها. لم يكن لقاسم وحزبه أن يقترحا خطوة من هذا النوع من دون أن يكون الأمر قد تمّ بإيعاز واضح ومباشر من طهران. حتّى إنّ اللغة التي استخدمها زعيم “الحزب” لابتلاع هذا “العلقم” فضحت أبجديّة مُربكة، حائرة، لا تتّسق مع أدبيّات “الحزب” وسوابقه في التعامل مع الرياض وهضم أيّ علاقة معها.

كان الرئيس الإيرانيّ مسعود بزشكيان قد التقى بوليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان على هامش القمّة العربيّة الإسلامية في الدوحة في 15 أيلول الجاري. وزار لاريجاني الرياض بعدها بأيّام والتقى بالقيادة السعودية وفي مقدَّمهم وليّ العهد. لئن بدت طهران مهتمّة بتعزيز علاقاتها مع السعوديّة والانفتاح من خلالها على العالمَين العربي والإسلامي، فإنّ مبادرة قاسم، على ركاكتها وتخبّطها وتفخيخها بالشروط، أتت من ضمن سياق إيرانيّ لا سياق لبنانيّاً له.

بدّد التوتّر الذي واكب احتفالات “الحزب” إحياءً للذكرى السنوية الأولى لاغتيال أمينه العامّ الراحل السيّد حسن نصرالله، أجواء ما زعمه “الحزب” وإيران وأمر عمليّاتها من ورائه، من اقتراح الصفحة الجديدة مع المملكة والحوار معها. ظهر أنّ “الحزب” يحتاج بعد أيّام على رسائله المصطنعة إلى الرياض إلى أن يُلحقها برسائله الجينيّة الأصليّة التي تؤكّد استمراره في انتهاج أقصى درجات الحدّة والاستفزاز ضدّ الدولة، وضدّ رئيس حكومتها نوّاف سلام، الذي لطالما أظهرت السعوديّة الدعم له ولحكومته في سعيهما إلى استعادة الدولة مكانها ومكانتها في يوميّات لبنان واللبنانيّين.

لاريجاني وجه طهران الأدقّ

يمثّل لاريجاني في إيران، منذ أن تمّت المبالغة في قراءة حدث تعيينه في منصبه في آب الماضي، الوجه الأدقّ لقرار الدولة في الجمهوريّة الإسلاميّة. الرجل مقرّب من المرشد علي خامنئي والحرس الثوري. عيّنه الرئيس الإيراني المحسوب على جناح الوسط والاعتدال في هذا المنصب. وبدا أنّ مهمّاته والصلاحيّات التي يتمتّع بها تتجاوز حركة وزير الخارجية عبّاس عراقجي، وتأخذ أبعاداً متقدّمة متعدّدة الأوجه.

بالمقابل بدا أنّ زياراته للبنان، كما مقاربته لملفّ العلاقة مع السعوديّة، تغرف من الإناء نفسه للإفراج عن علامات وأعراض متناقضة تكشف ذلك الارتباك الذي بات من سمات السياسة الخارجية الإيرانيّة منذ الضربات الإسرائيليّة والأميركية التي تلقّتها طهران في حزيران الماضي.

يأتي لاريجاني إلى لبنان مبارِكاً مبادرة نعيم قاسم السعوديّة. لكنّه يؤكّد من لبنان للسعوديّة على موقع “الحزب” في حسابات إيران الإقليميّة. يأتي الرجل مصطحباً موقف المرشد الداعم من جديد لـ”الحزب” وديمومته بصفته قيمة استراتيجيّة إيرانيّة وجزءاً من أصول إيران واستثماراتها. ويأتي حاملاً وعداً من رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف بالاستمرار بدعم “الحزب” بالسلاح.

إيران ماضية في تدخّلها

حين يجول لاريجاني على رئاسات الجمهوريّة ومجلس النوّاب والحكومة، أي على أركان دولة لبنان، التي تسعى السعوديّة إلى تمكينها لجعلها الناظم الوحيد للحكم في البلد والتحكّم بسلاحه، فإنّه يوجّه إلى الرياض ما يشير إلى أنّ طهران جهة مقرِّرة بمسارات لبنان ومصائره، وأنّ إيران ماضية في التدخّل المباشر في شؤون البلد، ومستعدّة لتكون مصدراً دائماً لسلاح الميليشيا المعطِّل الوحيد لقيام الدولة في لبنان.

لم تكن الحملة التي شنّتها منابر “الحزب” ضدّ شخص رئيس الحكومة “وحده”، والشكر الواضح المعاني لقائدَي الجيش وقوى الأمن الداخلي، والإيحاء بالتوافق “الدائم”، وفق تفاهمات سابقة، مع رئيس الجمهوريّة، إلّا سياقاً لما تريد إيران تأكيده، ولِما أراد لاريجاني الاستفادة منه في محادثاته مع أهل القرار في دولة لبنان. لكنّ الواقعة خدمت لاريجاني أيضاً، من حيث إنّها فضحت أيضاً ركاكةً وارتباكاً داخل المشهد اللبناني الحاكم يستدعيان مراجعة عاجلة لأداء لا يلاقي وعوداً قُطعت منذ انتخاب الرئيس جوزف عون رئيساً.

أظهرت واقعة “الروشة” الحدود القصوى التي يذهب إليها “الحزب” لتثبيت أنّ الأمر الواقع الذي حكم به البلد منذ انسحاب الوصاية السورية عام 2005، ما زال سارياً، لا يتغيّر بتاتاً شمال نهر الليطاني، وإن قبل بتخفيف مظاهره، وليس التخلّي عنه، جنوب النهر. أظهرت زيارة لاريجاني ارتياح إيران لما أظهرته الواقعة من استمرار نفوذ إيران على الشاطئ المتوسّطي للعاصمة اللبنانية.

تحتاج طهران في بيروت إلى إبراز نجاعة استثمارات فقدتها بشكل مفجع بعد “السقوط” في سوريا. تحتاج، من خلال “الحزب” ودعم المرشد والوعد بتدفّق السلاح، إلى أن تظهر نفسها لاعباً أساسيّاً ومعطِّلاً، على منوال ما برعت في ممارسته خلال العقود الأخيرة داخل بلدان المنطقة برمّتها. بدت إيران خارج عواصم الفعل التي دعاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى التشاور لبحث خطّته لإنهاء حرب غزّة. وبدت أمام اتّفاق الدفاع الاستراتيجيّ بين السعوديّة وباكستان (التي كانت حاضرة إلى طاولة ترامب مع بقيّة العرب) مذهولة مذعورة عاجزة عن إظهار موقف لفهم ما أحدثه الاتّفاق فجأة في الخرائط الجيوسياسيّة في المنطقة.

أيّام عصيبة في طهران

تعيش إيران أيّاماً عصيبة، وحزبها أيضاً. واقعة الروشة تفضح ذلك الانهيار بعد عام على رحيل زعيمه. غاب الدهاء. توارت الأفكار الكبرى. سقطت الأهداف المقدّسة النبيلة. بدت قبّة الصخرة في القدس بعيدة بعيدة من “الانتصارات” التي يتباهى بها “الحزب” قبالة صخرة “الروشة” في بيروت. وبدا الردح آخر ما بقي لحزب وعَد “الأمّة” بهزم الاستكبار وتحطيم جبروته على “صخرة” الصمود.

تعيش إيران نفسها نكستها هذه الأيّام. تساقطت أوراق نفوذها. خسرت عواصم سطت عليها. باتت في تأمّلها لعودة عقوبات الأرض ضدّها، تفتّش عن صخور تواري خلفها الخيبة والقنوط. باتت طهران التي شيّدت مدارس في علم الشعبويّة والأبجديّة الصاخبة، تتحدّث عن تدابير “غير قانونيّة” يتّخذها الخصوم على نحو “غير أخلاقي”، حتّى إنّ المرشد أعاد إنتاج لغة صارت متقادمة لا تفهمها قواعد الخروج من أزمة “سناب باك” والعلاقة مع “الوكالة الدولية” ومستقبل معادلات السلم والحرب التي يتوسّل لاريجاني تغيير قواعد اللعب بها من بيروت.

محمد قواص