بقلم د. ابراهيم العرب
في زمنٍ تتعاظم فيه الحاجة إلى رجالات دولة نظيفي الكف، صادقين في التزامهم، متجردين من المصالح والحسابات الضيقة، يطلّ المهندس محمد قباني كأحد القلائل الذين يحظون بإجماع اللبنانيين على مهنيته، وأخلاقياته الرفيعة، وصدقه في الأداء، ودماثة خلقه، ومحبة الناس له. واليوم، مع تعيينه رئيساً لمجلس الإنماء والإعمار، تتجدد الآمال بأن يُشكّل هذا الاستحقاق بداية لمسار إصلاحي حقيقي يُعيد الاعتبار إلى الدولة ومؤسساتها، وفي مقدّمها هذه المؤسسة المحورية.
لقد اشتهر محمد قباني كمهندس مشهود له بالرصانة والجدّية والانفتاح، وخصوصاً خلال تنفيذه للعديد من المشاريع التنموية، حيث أدار ملفات التنمية بوعي تقني ووطني، بعيداً عن الزبائنية والاصطفافات السياسية الضيقة. واليوم، ونحن أمام تحدٍّ وطني كبير، تُعلَّق عليه آمال واسعة ليقود مجلس الإنماء والإعمار نحو أداء شفاف وفعّال، يواكب حاجات الناس ويلبّي متطلبات النهوض.
مجلس الإنماء والإعمار بين الإرث الثقيل والإصلاح الممكن
في خضم الانهيار الاقتصادي الذي يرزح تحته لبنان، ومع تفاقم أزماته المالية والاجتماعية والمؤسساتية، يبقى مجلس الإنماء والإعمار أحد أبرز مؤسسات الدولة التي تتمتع بمكانة محورية في عملية التخطيط والتنفيذ للمشاريع الإنمائية الكبرى، والتي يعوَّل عليها في إرساء أسس النهوض الوطني، إذا ما أُعيدت هيكلته وتم تحصينه بالرؤية والكفاءة والشفافية.
أُنشئ المجلس بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 5 تاريخ 31 كانون الثاني 1977، كجهاز حكومي مستقل إدارياً ومالياً، موكلاً إليه إعداد الدراسات والخطط، وتأمين التمويل، وتنفيذ المشاريع الإنمائية والإعمارية، بالتنسيق مع الوزارات والإدارات الرسمية، ووفقاً لأولويات الدولة اللبنانية. وقد اضطلع المجلس منذ تأسيسه بأدوار كبيرة، فساهم في إعادة إعمار ما تهدم خلال الحرب، وأنجز شبكات طرق واتصالات، ومشاريع مياه وكهرباء، وبنى مدارس ومراكز صحية، فكان نموذجاً للتنمية المتوازنة حين توافرت الظروف الملائمة. وشكل المجلس الذراع التنفيذية للدولة في مجال التخطيط والتنمية، وكان له دور محوري في إعداد وتنفيذ أهم المشاريع الإنمائية الكبرى بالتنسيق مع الوزارات والإدارات الهامة، كما مثّل نقطة وصل بين لبنان والجهات المانحة الدولية من حيث تأمين التمويل والمتابعة الفنية.
إلا أن مسيرة المجلس لم تكن يوماً خالية من التحديات. فقد اصطدم عمله بعدة عوائق بنيوية، أبرزها:
غياب التخطيط الوطني الشامل، ما أفضى إلى تنفيذ مشاريع متفرقة لا تخدم بالضرورة أولويات حقيقية أو استراتيجية متكاملة.
تضارب الصلاحيات مع الوزارات والمؤسسات العامة، وتعدد المرجعيات التي تؤثر على استقلالية القرار، وضعف التنسيق أحياناً مع الوزارات، وتأخر صرف الاعتمادات، وعدم الاستقرار المالي العام في الدولة، ما خلق فجوات في التنسيق والتنفيذ.
تأثير الضغوط السياسية على آلية التلزيم واختيار المشاريع، فاهتزّت صورة المجلس كجسم تقني محايد.
تراجع ثقة الجهات المانحة، نتيجة غياب الشفافية والإصلاح، ما حدّ من قدرته على استقطاب التمويل اللازم.
ضعف المساءلة وغياب الأنظمة الرقمية المفتوحة، ما جعل المواطنين عاجزين عن مراقبة مراحل التخطيط والتنفيذ والتلزيم.
خارطة طريق للإنقاذ الإنمائي
أمام هذا الواقع، وفي ظل الحاجة الماسة إلى إعادة الاعتبار لدور المجلس، لا بد من إطلاق رؤية شاملة لإصلاحه وتفعيله، ترتكز على جملة من العناوين:
- تعزيز الشفافية من خلال نشر جميع المناقصات والعقود والمشاريع على منصات إلكترونية متاحة للرأي العام، وتفعيل رقابة ديوان المحاسبة والتفتيش المركزي.
- تخطيط إنمائي مستند إلى بيانات دقيقة، يُعد بالشراكة مع الوزارات والبلديات والمجتمع المدني، ليكون خارطة طريق ملزمة لكل المشاريع المستقبلية.
- تأمين تمويل مستدام ليس فقط عبر القروض والمنح، بل من خلال شراكات فعّالة مع القطاع الخاص (PPP)، مع اعتماد دراسات جدوى دقيقة تراعي الاستدامة البيئية والمالية والاجتماعية.
- استقلالية القرار داخل المجلس، من خلال تعيين مجلس إدارة يتمتع بالكفاءة والخبرة والنزاهة، بعيداً عن المحاصصة السياسية والولاءات الفئوية.
- تعزيز اللامركزية الإنمائية عبر تمكين البلديات من المشاركة في تحديد الأولويات وتنفيذ المشاريع الصغيرة والمتوسطة بالتنسيق مع المجلس.
- إشراك المجتمع المدني في مراقبة المشاريع والالتزام بقواعد الحوكمة الدولية للمؤسسات.
أملٌ في رجل دولة
من هنا، فإن تعيين المهندس محمد قباني رئيساً لمجلس الإنماء والإعمار ليس مجرّد خطوة إدارية، بل فرصة تاريخية لاستنهاض هذا الجهاز الحيوي، وقيادته برؤية علمية وأخلاقية متكاملة. ونحن على ثقة أن صدقه، وتجربته، ونظافة كفه، ستشكل ضمانة أساسية لتجديد الثقة بين المواطنين والدولة، وبين لبنان والجهات الدولية الداعمة، وللتشجيع على تنويع مصادر التمويل من خلال تفعيل الشراكة مع القطاع الخاص، والاعتماد على دراسات جدوى حقيقية تؤمن عوائد مستدامة، وتعيد ثقة المجتمع الدولي من خلال الإصلاحات الجذرية، ومن خلال تأمين رؤية شاملة لمهام مجلس الإنماء والإعمار، لأن العلاقات مع الوزارات يجب أن تكون تكاملية لا تنافسية، والمجلس في عهد الرئيس الجديد يجب أن يعمل وفق خطط وتوجهات الدولة مع احترام استقلاليته بهدف الوصول إلى نتائج فعالة وملموسة.
كل التمنيات للمهندس قباني بالتوفيق في هذه المهمة الوطنية، التي تتطلب رجالاً من طينته، ممن يعملون بصمت، ويتركون أثراً لا يُمحى في مسيرة بناء الدولة، يؤمنون بأن التنمية لا يمكن أن تكون فعالة من دون لامركزية إنمائية، ومن دون إشراك البلديات واتحاداتها في تحديد الأولويات وتنفيذ المشاريع، لاسيما أن خلفيته الأخلاقية والمهنية والإدارية تشجع على المساهمة في تطوير أداء المجلس وتعزيز الشفافية فيه، ولديه قناعة بأن التنمية هي مدخل أساسي إلى بناء الدولة، ولذا يجب أن يكون جزءاً من المسار الإصلاحي الذي يربط بين التخطيط العلمي والتنفيذ المسؤول.
وبين تعقيدات الواقع اللبناني ومخزون الأمل المتبقي، يبرز مجلس الإنماء والإعمار كمساحة اختبار جديدة للإصلاح الحقيقي. وإذا ما استُثمرت خبرة محمد قباني وأخلاقياته، فقد نكون أمام بداية استعادة الدولة لثقة مواطنيها، ومقدمة فعلية لمشروع إنقاذ وطني طال انتظاره.
د. ابراهيم العرب