بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
في مشهد يُذكّر بقمم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حين اجتمع قادة الحلفاء لتقاسم النفوذ وبدء مرحلة ما بعد الانتصار، جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة لواشنطن للقاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بمنزلة لحظة مفصليّة، ليس للاحتفال بالنصر على إيران، بل للكشف عن بداية التباعد في الرؤى بين الحليفين. فبينما تُشيد واشنطن وتل أبيب بنتائج الضربات العسكرية الأخيرة ضدّ المنشآت النووية الإيرانية، تبرز تساؤلات عميقة: إلى متى يمكن للعلاقة الشخصيّة بين ترامب ونتنياهو أن تصمد أمام الخلافات الاستراتيجيّة المتصاعدة؟
وصل نتنياهو إلى واشنطن بعد أسابيع من الغارات التي نفّذتها الولايات المتّحدة في 21 حزيران 2025 ضدّ مواقع نووية إيرانية أساسية في نطنز وفوردو وأصفهان. وخلال اللقاء، أشاد الجانبان بنجاح العملية، حتّى إنّ نتنياهو فاجأ ترامب بترشيحه باسم الحكومة الإسرائيلية لجائزة نوبل للسلام لدوره في “كبح التهديدات الإقليمية”.
لكن خلف الاحتفالات، أشارت تقارير استخباريّة إلى أنّ إيران ما تزال تحتفظ بجزء من قدراتها النووية، وأنّ الموادّ المخصّبة الدفينة في أعماق منشآت كأصفهان لم تُدمّر بالكامل، وهو ما يعني أنّ البرنامج النووي الإيراني لم يُقضَ عليه بل تأجّل فقط.
هنا يتجلّى الخلاف:
– ترامب يفضّل أهدافاً عسكرية محدودة، ويرى أنّ الوقت حان لفتح قنوات دبلوماسية عبر الحلفاء في الخليج، مدعومة بحوافز اقتصادية، لإبرام اتّفاق نووي جديد يحقّق احتواءً طويل الأمد من دون التورّط في صراع دائم.
– نتنياهو يرى في الضغط العسكري المستمرّ السبيل الوحيد لردع طهران، مطالباً بتفكيكٍ كامل لبرامج إيران النووية والبالستية، وإضعاف دائم لوكلائها مثل “الحزب” و”حماس”. وقد أبلغ ترامب صراحة أنّ إسرائيل ستقصف مجدّداً إذا استأنفت إيران نشاطاتها النووية، وهو ما لم يعترض عليه ترامب.
غزّة ساحة خلاف موازية
لم تكن إيران وحدها محور الخلاف. فملفّ غزّة زاد من حدّة التوتّر. فبينما دعا ترامب إلى وقفٍ لإطلاق النار لمدّة 60 يوماً لأسباب إنسانية وسياسية، تمسّك نتنياهو بشروط صارمة: نزع سلاح “حماس” بالكامل، إبقاء السيطرة الأمنيّة الإسرائيلية، والحفاظ على مناطق عازلة داخل القطاع.
رأى ترامب، الطامح إلى تقديم نفسه صانعَ سلام في حملته المقبلة، أنّ اتّفاق هدنة من شأنه أن يعزّز صدقيّته أمام الناخبين الأميركيين، ويرضي شركاء الخليج، ويحمي الاستثمارات الأميركية المتزايدة في المنطقة ضمن إطار “أميركا أوّلاً”. لكن بالنسبة لنتنياهو، أيّ تنازل في غزّة قد يُرى ضعفاً داخليّاً في ظلّ محاكمات الفساد التي يواجهها وتماسك ائتلافه الهشّ.
علاقة شخصيّة تتحدّى الخلافات
على الرغم من التباين السياسي، تتجاوز العلاقة بين ترامب ونتنياهو الحسابات الدبلوماسيّة، وتقوم على أسس شخصيّة ممتدّة منذ عقود.
في الثمانينيّات، كوّن نتنياهو، حين كان سفيراً لدى الأمم المتّحدة، علاقات مع فريد ترامب، والد دونالد. لاحقاً، تطوّرت العلاقة إلى دعم سياسي متبادل: نتنياهو دعم حملة ترامب مبكراً، وترامب بدوره اتّخذ قرارات تاريخية لمصلحة إسرائيل، من نقل السفارة إلى القدس، والاعتراف بالجولان، إلى تقليص تمويل الأونروا، ودعم ضمّ أجزاء من الضفّة الغربية. وكرّم نتنياهو ترامب بإطلاق اسم “ترامب هايتس” على مستوطنة جديدة في الجولان.
المال والأيديولوجية: أديلسون في الخلفيّة
دعمت المليارديرة ميريام أديلسون هذا التحالف عبر تمويلها لحملات ترامب بنحو 100 مليون دولار، وتقديم دعم مماثل لنتنياهو من خلال صحيفة “إسرائيل هيوم” ولوبيات الضغط. بذلك، جمعت بين الزعيمين أيديولوجيّاً وماليّاً، ووفّرت غطاءً شعبيّاً وإعلاميّاً لتحالفهما.
إلى ذلك يشترك الزعيمان في معارك قانونية وصورة ضحيّة “الدولة العميقة”. فنتنياهو يواجه محاكمات فساد، وترامب يواجه تهماً جنائيّة، وكلّ منهما يصوّر نفسه هدفاً لتحالفات نخبويّة تحاول إسقاطه. لمّح ترامب أكثر من مرّة إلى استعداده “لإنقاذ نتنياهو”، في تصريحات تعكس عمق العلاقة الشخصيّة بينهما.
على الرغم من هذه الروابط، يشير الواقع الاستراتيجي إلى تباين متسارع:
– إيران: يميل ترامب إلى الحلول التفاوضيّة والاتّفاقات المعدّلة، بينما يُصرّ نتنياهو على الردع العسكري المستمرّ وترك خيار الضربات المستقبلية مفتوحاً.
– غزّة: يسعى ترامب إلى وقف إطلاق نار يفتح الطريق لحكم عربيّ مشترك وإعادة إحياء اتّفاقات أبراهام مع دول كالسعودية وسوريا ولبنان. أمّا نتنياهو فيفضّل عمليّات عسكرية دوريّة تُبقي اليد العليا لإسرائيل من دون التزامات سياسية.
– البيئة الإقليميّة: تفضّل دول الخليج الاستقرار قبل التطبيع الكامل، بينما يتصاعد التوتّر مع الأوروبيّين الذين سئموا من تصلّب المواقف الإسرائيلية. وتضغط إسرائيل على واشنطن للردّ على هجمات الحوثيّين وتحديد ضرباتها في حين تفضّل واشنطن عدم التورّط المباشر، وهو ما يضيف بُعداً آخر للخلاف.
كشفت زيارة نتنياهو لواشنطن، التي رُوّج لها كعرض للنصر، عن تصدّعات في واحد من أقوى التحالفات في العالم. وبينما تتحوّل الإنجازات العسكرية إلى حسابات استراتيجيّة، تواجه العلاقة بين ترامب ونتنياهو اختباراً حقيقيّاً: هل يمكن لهما التوافق على مستقبل المنطقة بعد تحقيق النصر العسكري؟
كما حدث مع حلفاء الحرب العالمية الثانية، لم يكن الانتصار نهاية للخلافات، بل بداية لصراعات الرؤى. ومع تعثّر اتّفاق غزّة وتزايد الضغط على إيران، يبقى مستقبل هذا التحالف معلّقاً، في وقت تتزايد فيه المخاطر على استقرار المنطقة بأكملها.
موفق حرب