أنقرة في امتحان غزة الجديدة؟

بقلم د.سمير صالحة

«اساس ميديا»

تلوح في الأفق ملامح ترتيب إقليميّ جديد تحت عنوان ‘غزّة الجديدة’، تقوده واشنطن بإشراف مباشر، وبدعم من عدّة عواصم عربيّة وغربيّة، من بينها أنقرة. فالحراك هذه المرّة يتجاوز جغرافيا القطاع ليرسم خريطة سياسيّة وأمنيّة جديدة في المنطقة.

يقول الرئيس الأميركيّ، وهو يعبّر عن تفاؤله بشأن مسار المفاوضات الجارية بين الإسرائيليّين و”حماس” في العاصمة المصريّة، إنّه تحدّث مع الرئيس التركيّ رجب طيّب إردوغان، وهو “شخص رائع وقويّ جدّاً، ويبذل جهداً كبيراً لتحقيق هذا الاتّفاق، و”حماس” تكنّ له احتراماً كبيراً”. ترامب رجل صفقات ولا يتحدّث بالمجّان. فما الذي يدور في ذهنه؟ وما الذي سيطلبه من الجانب التركيّ وهو يوجّه رسائل انفتاحيّة من هذا النوع؟

مراجعات سياسيّة واسعة

يعني التمسّك بطاولة المفاوضات بين إسرائيل و”حماس” في مصر أنّ المسألة لن تبقى محصورة في إطار صفقات أو مقايضات تتعلّق بقبول بند أو رفض آخر، بل إنّ الأمور ستزداد تعقيداً عند الوصول إلى قضايا تسليم غزّة لقيادة فلسطينيّة جديدة، وأماكن توجّه قيادات “حماس”، ومستقبل التنظيم السياسي.

تتداول وسائل إعلام غربيّة أنّ “خطّة ترامب، في أكثر صورها طموحاً، تتصوّر قيام “حماس” بما قالت إنّها لن تفعله، وهو الاستسلام: أي الموافقة على نزع سلاحها والتخلّي عن جميع السلطات في قطاع غزّة، الذي تحكمه منذ عام 2007″. وهو ما بدأت تتهيّأ له أكثر من عاصمة ومركز قرار إقليميّ ودوليّ.

لا نعرف بعد التوصيف السياسيّ والقانونيّ والتقنيّ الدقيق لخطّة ترامب وبنودها المرتبطة بالمسار السياسيّ والأمنيّ والاقتصاديّ الجديد في غزّة، لكن من المؤكّد أنّه عند انطلاق ساعة الصفر لتنفيذ الخطّة ستتّجه الأنظار إلى الداخل الفلسطينيّ والإسرائيليّ، وستبدأ المراجعات السياسيّة الواسعة. ستكون تركيا حتماً من الدول المعنيّة بحماية مصالحها مع مختلف الأطراف المنخرطة في هذا المسار.

السؤال الآن هو: كيف سيكون شكل العلاقة الجديدة بين القيادات التركيّة وقيادات “حماس” التي وافقت على المقترحات الأميركية بتشجيع تركيّ؟ وماذا ستعرض أنقرة في ما يتعلّق بانتقال بعض قيادات وكوادر “حماس” من غزّة إلى أراضيها مثلاً؟ وكيف سترسم حدود تحرّك هذه المجموعات داخل تركيا إن قرّرت استضافتها؟ وما هي انعكاسات ذلك على الداخل التركيّ، وعلى علاقات تركيا مع العواصم الغربيّة، وتحديداً مع إسرائيل؟

تشير الخطوة التركيّة المتمثّلة في نقل عشرات الناشطين في “أسطول الصمود” من تل أبيب إلى إسطنبول، على الرغم من التوتّر مع إسرائيل، إلى تفاهم ضمنيّ قد يمهّد لتحسّن العلاقات التركيّة – الإسرائيليّة. وهو أمر حاسم لدور أنقرة في تنفيذ خطّة ترامب السياسيّة والأمنيّة والاقتصاديّة في غزّة، مع استمرارها في الحفاظ على توازن علاقاتها مع السلطة الفلسطينيّة والأطراف الإقليميّة.

تدرك أنقرة أنّها بحاجة إلى تحسين علاقاتها مع تل أبيب إذا ما أرادت أن تلعب دوراً فاعلاً ومباشراً في تنفيذ بنود خطّة ترامب، ولا تنتظر تغيّرات داخليّة في إسرائيل أو إزاحة نتنياهو من المشهد السياسيّ كي تتحرّك، بل توظّف ما تملك من أوراق لحماية دورها ومصالحها في التوازنات الإقليميّة الجديدة. وتمثّل علاقتها الجيّدة بالسلطة الفلسطينية واستقبالها للرئيس محمود عبّاس ورقة وصل قد تتيح لها الحفاظ على علاقات متوازنة مع الأطراف المختلفة، بمن فيهم الإسرائيليّون.

سيكون الاختبار التركيّ الأصعب في رسم مسار العلاقة مع “حماس” في ضوء بنود خطّة ترامب ونظرتها إلى التنظيم وقياداته ومستقبله السياسي ضمن المسار الفلسطينيّ الجديد. يتطلّب التعامل مع “حماس جديدة” داخل غزّة وخارجها استجابة إقليميّة ودوليّة جديدة. فهل تنجح تركيا في إقناع قيادات وكوادر التنظيم بقبول هذا التحوّل الجذريّ، عمليّاً ونظريّاً؟

يحتاج الحراك الجاري على طريق تفعيل خطّة ترامب إلى متابعة دقيقة لثلاثة مسارات:

  • بنود الخطّة نفسها.
  • البيان الصادر عن قمّة الدول العربية والإسلامية بعد لقائهم الرئيس الأميركي في نيويورك.
  • مواقف وطروحات الأطراف المتنازعة.

أكثر من لاعب

لا تُغفل النقاشات الحاليّة الواقع السياسي المعقّد والتحدّيات التي تواجه قيادات “حماس”، من ضغوط “الاستسلام السياسي” إلى قبول خيار تحضير فريق تكنوقراطيّ لإدارة غزّة، إضافة إلى أبعاد إعادة الإعمار التي تشكّل جزءاً من مسار محلّي وإقليميّ متعدّد الأهداف سيتعارض حتماً مع حساباتها وطروحاتها.

ساهمت أنقرة بحكم علاقاتها الجيّدة مع الجانب الفلسطينيّ والعديد من العواصم العربيّة والإسلاميّة والغربيّة في إيصال الأمور إلى خطّ التفاوض في القاهرة. ولم تكن أنقرة خارج المسار الأميركي – الإقليميّ الجديد في التعامل مع غزّة، بل أدّت دوراً مهمّاً خلف الكواليس في تشجيع قيادات “حماس” على قبول خطّة ترامب، حتّى لو بدا ذلك مراجعة لخطابات وسرديّات سياسيّة وأيديولوجيّة حكمت العلاقة بين الطرفين لسنوات.

كان لعلاقتها بقيادات “حماس” منذ سنوات طويلة تأثيره في إقناع قيادات التنظيم بقبول العرض الأميركيّ، لكنّها عندما تفعل ذلك فهي تقوم به في إطار استراتيجية تحرّك إقليميّ جديد، مرتبط بالتنسيق الكامل مع العواصم العربيّة والإسلاميّة في التعامل مع العديد من الملفّات الإقليميّة وعلى رأسها الملفّ الفلسطينيّ.

لا تبدو تركيا لاعباً داعماً في ترتيبات “غزّة الجديدة” وحسب، بل تسعى إلى تكريس موقعها كوسيط إقليميّ لا يمكن تجاوزه في معادلات ما بعد 7 أكتوبر/تشرين الأوّل 2023. ستحدِّد قدرتها على التوفيق بين علاقاتها المتشابكة مع “حماس” وتل أبيب وواشنطن شكلَ حضورها في المرحلة المقبلة. لكنّها تدرك أيضاً أنّ قواعد اللعبة تتغيّر بسرعة، وأنّ الحياد المستحيل قد لا يطيل عمر الخيارات الوسطيّة. فهل تنجح أنقرة في تثبيت موقعها بين الخطوط المتقاطعة، خصوصاً أنّها ترفض أن تكون خارج مسار “غزّة الجديدة” الذي يُعاد رسمه وسط خرائط وتحالفات إقليميّة متبدّلة؟

د.سمير صالحة