إسكندر حبش: صلاة لا تنتظر الغفران

بقلم نديم قطيش

«أساس ميديا»

من سوء حظّ إسكندر حبش، الشاعر والمترجم والناقد اللبنانيّ الفلسطينيّ الأرمنيّ، أنّه مات في زمنٍ شديد الاستقطاب. العالم، بحسب العبارة البن لادنيّة، فسطاطان: مع أو ضدّ، ممانعة أو تطبيع، مقاومة أو خيانة، كرامة أو ارتهان. في زمنٍ هذه صفاتُه، لا يُذكر الشاعر بما كتب، بل بالجهة التي انتمى إليها، وبالسرديّة التي يُراد لنصّه ووجوده، أو غيابه، خدمتها، ولو خلافاً لمنطق التعايش الذي صنعه الكاتب نفسه بين تناقضاته.

كان حبش، في الشعر، حداثيّاً حتّى آخر سطر. رقص مع اللغة من الداخل. نقّى عبارته من الزخرفة ليصل إلى كثافةٍ توازي الصمت. في السياسة، كان مؤمناً بما رآه خيار المقاومة عند “الحزب”. إيمان واضح، صلب، صادق في نواياه وإن بدا لي دائماً مناقضاً لحداثة وعيه الجماليّ. لم يسعَ حبش لجسر هذه الهوّة، وهي هوّة برأيي فقط، تاركاً لنصّه فسحة أن يظلّ جمالاً خالصاً يسبق الموقف ولا يُختزل فيه.

لم يورّطنا إسكندر في ثنائيّة العدالة الجماليّة والأخلاقيّة. ترك لنا رحابة القدرة على أن نحبّ شعره دون أن نتبنّى مواقفه، وأن نحترم صدقه السياسيّ وإن خالفناه.

الانحياز للقصيدة

كان انحيازه الأوّل والأخير والأعمق دائماً للقصيدة نفسها. فنّ للفنّ وجمال للجمال، لا بالمعنى الرأسماليّ الاستهلاكيّ الذي، في نواحٍ كثيرة، سلَّع الثقافة، بل بالمعنى الذي يحمي القصيدة من نفسه أوّلاً ومن وطأة خياراته السياسيّة.

كان، في علاقته بالنصّ، كانطيّاً وهيغليّاً معاً. يرى في الجمال تحرّراً، وفي الفنّ وعداً لإعتاق النفس وتجاوز تناقضاتها. لم يزيّن، بل ظلّ أميناً للنصّ الشعريّ بوصفه تمريناً على الحرّية، على التجلّي الذي يسبق الموقف ويعلو عليه.

من حيث لا يدري ربّما، “قاوم” إسكندر حبش لأن يكون الشاعر الذي لا يختزل ببيانه السياسيّ، بل الذي يقاس بمساحة الحرّية التي يخترعها داخل اللغة. قصيدته، بهذا المعنى، لم تبرّر، ولم تعِظ بل صارت مكان لقيا بين البشر بعد أن تحطّم الكثير من معجم اللغة المشتركة.

لم يكن يعنيه، بالتأكيد، ما خلص إليه تيودور آدورنو بعد المحرقة، حين رأى أنّ اللذة الجماليّة تصبح قبحاً مضاعفاً إن انفصلت عن جوهرها التحرّريّ. شاعرنا ظلّ حتّى أيّامه الأخيرة، بشهادة أصدقائه، يرى في الشعر خلاصاً فرديّاً لا مشروعاً أخلاقيّاً، وفي الجمال عزاءً لا موقفاً.

لعلّ من حظّ الشعر أن وهبنا في لحظة ما بول تسيلان، الناجي من المحرقة، والقائل، في مواجهة الإدانات الأخلاقيّة للجمال، أنّ الشعر ليس هرباً من الكارثة، بل شكلٌ من أشكال الشهادة التي لا تستطيع إلّا أن تكون جماليّة. جعل تسيلان من جمال القصيدة ضرورة أخلاقيّة، لأنّها الشكل الوحيد الذي يحفظ للفرد أن يعاني بأعلى درجات الكرامة، ومن دون أن يُختزل في خطاب سياسيّ أو شعار.

فوق ذلك يتّسع الجمال، أصلاً، حتّى لخطايا أصحابه، حين لا تعصم العبقريّة صاحبها من العمى الأخلاقيّ. هل يلغي إيمان عزرا باوند بالفاشيّة ودفاعه عن موسوليني، كونه أحد مؤسّسي الحداثة الشعريّة؟ هل يُزاح لوي فرناند سيلين، عن عرش أعظم الأدباء الفرنسيّين، لأنّه صرّح بكراهيته المريضة لليهود؟

وقف شعر إسكندر حبش على حافة هذا السكّين. ليس نصّه درساً في الأخلاق، لكنّه يحمل أثر الأخلاق في بنيته اللغويّة ذاتها، كأنّ اللغة عنده مسؤولة عن العالم. كتب عن ذاته وتفاصيله اليوميّة، وهو يُنصت دائماً لما هو أبعد. إلى أثر الكلمة في الوجود. إلى حضور الإنسان في اللغة. إلى ضرورة أن تكون العبارة عدلاً صغيراً في وجه فوضى العالم ومظالمه الكثيرة.

لغة الشّاهد

كتب حبش بلغة شاهد، لا يملك رفاهية التبسيط. كتب ما رآه، عن الحبّ والحرب والنساء والعزلة والموت، حتّى لو كان ما رآه معقّداً ومتناقضاً ومؤلماً. كتب صلاةً لا تعظ، واعترافات لا تبحث عن غفران.

إنّ إنصاف حبش لا يكون بتبرير مواقفه، ولا بإدانتها، بل بالاعتراف بصدقه فيها، وبأصالته في الشعر. هو لم يكن انتهازيّاً ولا عابراً. كان ابن قناعته، ولو خالفت قناعتنا. وابن لغةٍ حرّة، ولو لم يحرّر كلّ وعيه منها. ولعلّ هذا ما يجعل الحديث عنه اليوم حديثاً عن محنة الحداثة العربيّة التي بلغت في الشعر والأدب والمسرح والرسم وغيرها من الفنون، ما لم تبلغه في الفكر والسياسة والحكم والدولة. عن شاعرٍ سبقت شعريّته الخاصّة وعيه السياسي، لكنّه ظلّ صادقاً في الاثنين.

في حضرة غيابه، يصبح الخلاف معه شكلاً من أشكال الوفاء له، لأنّني أقرأه كما هو، لا كما أريده. أحبّه رغم المسافة، وأحترمه لأنّ المسافة لم تمنع الحبّ. لأنّنا نصدّق أنّ الشعر، قبل كلّ شيء، وبعد كلّ شيء.

نديم قطيش