المحامي أسامة العرب
في خضمّ تحوّلات اجتماعية وقانونية تشهدها المنطقة العربية، يبرز لبنان بوصفه نموذجًا للتفاعل بين الثوابت الدينية والمتطلبات المعاصرة، عبر إصلاحاتٍ غير مسبوقة في قانون أحكام الأسرة السنية، أقرّها المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، لتدخل حيّز التنفيذ في أيار 2025. هذه التعديلات، التي تُعدّ الأكثر جرأة منذ عقود، لا تعكس تجديدًا فقهيًا فحسب، بل تُجسّد رؤيةً متكاملة لمواكبة تحوّلات المجتمع، تحت شعار “الإصلاح من داخل المرجعية”، بهدف تحقيق عدالة أسرية متوازنة بين أحكام الشريعة وضرورات العصر.
السياق التاريخي والاجتماعي: من الجمود إلى التفاعل
شهدت قوانين الأحوال الشخصية في لبنان، وخاصةً الإسلامية منها، جمودًا تشريعيًا منذ منتصف القرن العشرين، رغم التغيّرات الجذرية في بنية الأسرة ودور المرأة. ففي الوقت الذي تبنت فيه دول عربية مثل تونس والمغرب إصلاحاتٍ جريئة، ظلّ لبنان يتأرجح بين ضغوط المجتمع المدني والمحافظة الدينية. لكن تصاعد الأزمات الاقتصادية منذ 2019، وتردي الضمانات الاجتماعية، دفع المرجعيات الدينية إلى إعادة النظر في التشريعات، خاصةً مع تزايد حالات العنف الأسري والتفكك الاجتماعي. هنا، تحوّلت المناشدات الحقوقية إلى فعلٍ تشريعي، بدءًا من قرار منع زواج القاصرات تحت 15 عامًا في 2021، الذي مهّد لموجة إصلاحية أوسع.
قراءة في التعديلات: بين النص الشرعي والواقع العملي
- حق التماس التفريق بسبب “الابتعاد الجسدي”: نحو عدالة سريعة
لم يعد انقطاع الزوج عن مسكن الزوجية لأكثر من سنة يُعتبر إشكاليةً شخصية، بل تحوّل إلى سببٍ قانوني للطلاق، استنادًا إلى مبدأ “دفع الضرر” في الفقه الإسلامي. هذا التعديل يُعالج إشكالية “الزوج المعلّق”، حيث كانت المرأة تُجبر على انتظار سنوات قبل المطالبة بالتفريق، مما يعرّضها لضررٍ نفسي ومادي. أما اليوم، فبات بإمكانها المطالبة بحقوقها خلال أشهر، مع ضمان نفقةٍ مؤقتة خلال فترة التقاضي، وهو إجراءٌ يُحاكي أفضل الممارسات في القوانين الدولية.
- تعديل سن الحضانة: نحو مراعاة النمو النفسي للطفل
إن رفع سن الحضانة إلى 12 عامًا للذكور و14 عامًا للإناث، لم يأتِ اعتباطًا، بل استند إلى دراساتٍ أجرتها منظمات محلية بالتعاون مع خبراء نفسيين، أظهرت أن انتقال الطفل في مرحلة المراهقة المبكرة إلى حضانة الأب قد يُسبّب صدمات عاطفية، خاصةً في المجتمعات الأبوية. كما ألزم التعديل المحكمةَ بضرورة استشارة الطفل عند بلوغه العاشرة، تماشيًا مع اتفاقية حقوق الطفل الدولية، مع الحفاظ على حق الأب في المشاركة الفاعلة في التربية.
- إعادة تعريف “مسكن الزوجية”: من الشكلية إلى الواقعية
إن التعديل الجديد يُلزم الزوج بتوفير سكنٍ يتوافق مع مكان إقامته الفعلية وظروفه المادية، وليس مجرد مسكنٍ رمزي. ففي السابق، استغل بعض الأزواج ثغرةً قانونيةً بالانتقال إلى سكنٍ ثانوي غير ملائم، كمنزل اصطياف لا يقيم فيه الزوج، مُتهرباً من التزامات النفقة. أما اليوم، فأصبحت الزوجة قادرةً على المطالبة بمسكنٍ يتناسب مع وضعها الاجتماعي، أو الحصول على بدل نقدي في حال رفض الزوج، مما يحدّ من التلاعب بالمفاهيم الشرعية.
- الحماية من العنف: شرعنة حق الهروب من الجحيم
لأول مرةٍ في التشريع السني، يُسمح للزوجة بمغادرة المنزل في حال تعرّضها للعنف دون وصمها بـ”النشوز”، مع ضمان استمرار النفقة وتوفير سكنٍ آمن. وهذا التعديل يُعتبر نقلةً نوعية، إذ يعترف بالعنف النفسي (كالتهديد والتحقير) كسببٍ للتفريق، متجاوزًا التفسيرات الضيقة التي كانت تقصر العنف على الإيذاء الجسدي. كما يُلزم القانون القاضي بإصدار أوامر حماية فورية، بالتعاون مع مؤسسات الدولة ذات الصلة.
- شفافية النفقة: من العشوائية إلى المعايير الموضوعية
لم تعد النفقة تُحدّد بشكلٍ اعتباطي، بل أصبح القاضي مُلزمًا باحتسابها وفقًا لثلاثة معايير: دخل الزوج الحقيقي (بما في ذلك الأصول غير المعلنة)، ومستوى المعيشة السابق للأسرة، والتضخم الاقتصادي. كما أُلغيَ مفهوم “النفقة الرمزية”، لضمان كفاية المبلغ لتغطية التعليم والصحة، وهو ما يُحاكي قانون الأحوال الشخصية التونسي الذي ربط النفقة بالحد الأدنى للأجور.
- توسيع مفهوم النفقة: من الكفاف إلى الكرامة الإنسانية
باتت النفقة تشمل تكاليف الرعاية الصحية النفسية والجسدية، وخدمات التنظيف المنزلية في حال مرض الزوجة، وحتى الدورات التدريبية لتعزيز فرصها العملية. هذا التوسيع يستند إلى فتاوى شرعية قديمة تُجيز إضافة “الكماليات” إذا اعتادت الأسرة عليها، لكنه يُطبّق اليوم بشكلٍ منهجي، لضمان عدم تدهور مستوى معيشة المرأة بعد الطلاق.
التجديد الشرعي: مقاصد الشريعة كإطار مرن
لم تخرج هذه الإصلاحات عن الإطار الشرعي، بل اعتمدت على تفعيل مقاصد الشريعة، كحفظ النفس والكرامة، عبر آليات الاجتهاد الجماعي. فمثلاً، اعتمدت فكرة “الضرر بالابتعاد” على آراء متشددة في حق المرأة في الطلاق عند هجر الزوج، بينما استند تعديل الحضانة إلى اجتهادات المذهب الحنفي التي تراعي مصلحة الطفل. وهذا النهج يُظهر أن التجديد ليس تهديدًا للثوابت، بل إحياءً لتراثٍ فقهي متنوّع، طُمِسَ تحت هيمنة التفسيرات الأحادية.
التحديات: بين النص والتطبيق
رغم الإنجاز التشريعي، تظل العقبة الكبرى في تطبيق هذه القوانين، وذلك لعدة أسباب:
– القضاة المحافظون: بعضهم قد يُضيّق تفسير النصوص، كأن يشترط إثبات العنف الجسدي عبر تقارير طبية فقط، متجاهلاً العنف النفسي.
– الوعي المجتمعي: قد تُواجه المرأة ضغوطًا عائلية لعدم المطالبة بحقوقها، خوفًا من “الفضيحة”.
– الإمكانيات المادية: عدم وجود دور إيواء كافية للنساء المعنّفات قد يُعيد إنتاج المشكلة.
لذا، يقترح الخبراء إلزامية تدريب القضاة على النصوص الجديدة، وتأسيس صندوقٍ حكومي لدعم نفقات التقاضي، وتعزيز التعاون بين المجلس الشرعي والجمعيات الأهلية.
رؤية مستقبلية: نحو نظام قضائي موحّد؟
إن هذه الإصلاحات تفتح الباب أمام تساؤلاتٍ أكبر: هل ستتبنى الطوائف الأخرى (كالشيعة والدروز) تعديلاتٍ مشابهة؟ وهل يمكن توحيد قوانين الأحوال الشخصية في لبنان مستقبلًا مع الإبقاء على الخصوصيات في الأمور الحساسة لكل طائفة؟ رغم صعوبة الأمر، إلا أن النقاش العام الذي أثارته هذه التعديلات يُشير إلى تحوّلٍ في وعي المجتمع، قد يُفضي إلى مزيدٍ من التقارب بين الطوائف، في إطار احترام الخصوصية الدينية.
الإصلاح كعملية تراكمية
ختاماً، لا تُعتبر هذه التعديلات نهاية المطاف، بل خطوةً في مسارٍ طويل لإعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة الدينية. فبينما تُحذّر بعض الأصوات من “تغريب” الشريعة، تُجيب هذه الإصلاحات بأن الإسلام قادرٌ على احتضان العدالة دون التنازل عن هويته. ومع انطلاق التطبيق الفعلي، سيكون المقياس الحقيقي هو مدى تحسّن حياة الأسر، وخاصةً النساء والأطفال، الذين طالما كانوا الضحية الصامتة لنظامٍ قانوني عفا عليه الزمن.
المحامي أسامة العرب