بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
كذّبت إيران كلّ المزاعم التي ادّعت “افتراءً” أنّ الجمهورية الإسلامية لا تتدخّل لحماية أذرعها داخل “المحور”. صحيح أنّها لم تفعل ذلك لإنقاذ نظام بشّار الأسد في سوريا، أو لردّ الإبادة عن غزّة، أو للانتقام لما يصيب الفصائل الولائيّة في العراق، أو لصدّ الهجمات “الإمبرياليّة” عن جماعة الحوثي في اليمن. وصحيح أنّ بيئة “الحزب” عاتبت قبل أشهر بصوت خافت إيران على ما حلّ بها والبلد وبـ”الحزب” وزعيمه وقياداته من ويلات “حرب الإسناد”، لكنّ إيران تقدّم هذه الأيّام المدد لحزبها في لبنان.
لم تسكت طهران. أماط وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، اللثام عن موقف يتسرّب منه تحريك إيران لقواها الذاتية والمحورية وربّما الدوليّة لردّ “وقاحة” الدولة في لبنان في أن تطمح إلى أن تكون دولة كباقي دول العالم. يُبلغ الرجل العالم، أي لبنان وكلّ المنطقة، كما أوروبا والولايات المتّحدة، من دون إهمال دول حلفاء مثل روسيا والصين، أنّ “تسليم سلاح “الحزب” سيفشل”. ولا يحتاج المرء إلى فطنة لاستنتاج أنّ في ثنايا تلك النبوءة أمر عمليّات لـ”الحزب” برفض تسليم السلاح وإجهاض هدف حصريّة سلاح البلد في يد دولته.
تحرّض طهران حزبها على التمرّد. بدا أنّ ما أعلنه الأمين العامّ لـ”الحزب” الشيخ نعيم قاسم، أثناء انعقاد جلسة مجلس الوزراء يوم الثلاثاء، كان قراءة حرفيّة من نصّ وارد من إيران أعلنه الوزير الإيراني متعمّداً قبل ساعات من انعقاد جلسة المجلس التالية يوم الخميس. مختصر الكلام أنّ سلاح “الحزب”، وفق ما أعلن الأمين العامّ الراحل السيّد حسن نصرالله، إيرانيّ الملكيّة، وبالتالي أمر مساره وحركته واستخداماته، وطبعاً مصيره، يتقرّر في طهران، أو، وهنا بيت القصيد، مع طهران. باختصار رسالة إيران: لن “نأمر” حزبنا في لبنان بتسليم سلاحه إلّا بعد أن نقايض الأمر بمقابل.
أثنى الوزير على موقف قاسم. ثمّ نأى برشاقةٍ بالنفس عن التدخّل في شأن قال إنّه “قرار الحزب” وحده، وكاد يقول “لا شريك له”. غير أنّ ما تقوله أبجديّة يُفترض أن تكون بحدّها الأدنى دبلوماسية، لا يعترف بلبنان دولةً ورئيساً وحكومةً وبرلماناً وشعباً، ولا بقرارات أمميّة ومزاج عربي وإرادات مجتمع دولي. لكنّ الأفدح في كلّ ذلك أنّ إيران لا تعترف في لبنان باللبنانيّين، ولا ترى في هذا البلد إلّا سلاحاً يخصّها ومن حقّها أن تحجب أيّ نقاش بشأنه.
حين أفحمنا الوزير
قبل شهرين فقط، في 3 حزيران الماضي، كان عراقجي يزور لبنان. قال حينها، في سعيٍ لإفحامنا، إنّ إيران “دعمت سيادة لبنان ووحدة أراضيه في كلّ المراحل وما تزال تدعمه”. ثمّ أضاف ليمعن في تخجيلنا أنّ إيران تأمل “فتح صفحة جديدة في العلاقات مع لبنان على أساس الاحترام المتبادل، ونحن نحترم شؤونه الداخلية ولا نتدخّل فيها”. ولئن تحدّث عن “صفحة جديدة”، فإنّ في ذلك إقراراً بسوء ارتُكب في الصفحة القديمة.
حتّى يُفرط الرجل في إقناعنا بمراجعة مفترضة قد أجرتها بلاده لمقاربة الجمهورية الإسلامية للعلاقة مع الجمهورية اللبنانية، أظهر الوزير الإيراني في تصريحاته حينذاك عظةً تلفت إلى أنّه “لا يحقّ لأيّ دولة التدخّل في شؤون لبنان الداخلية”، وأنّ “علاقاتنا مع لبنان هي علاقة عريقة، لطالما كانت ودّية وقائمة على الاحترام المتبادل”.
لا أحد في لبنان صدّق حينها تلك المواقف التي بدت متعثّرة تستسهل الكلام وتستخفّ بعقول بيئة “الحزب” نفسه قبل الاستخفاف بذكاء اللبنانيين. لا أحد في لبنان اهتمّ أساساً بأخذ تلك المواقف على محمل الجدّ. جاء كلام الوزير على بعد 10 أيّام فقط من استدعاء وزارة الخارجية اللبنانية في 22 نيسان الماضي السفير الإيراني، مجتبى أماني، احتجاجاً على انتقاده المداولات اللبنانية بشأن سلاح “الحزب” وحصريّة السلاح بيد الدولة اللبنانية. كان السفير اعتبر أنّ ذلك “مؤامرة” تنبّهت لها طهران.
ما قاله سفير طهران يقوله وزيرها هذه الأيّام. تتدخّل إيران من دون خجل أو كلل في شأن لبنان بصفته حديقة من حدائق الوليّ الفقيه في المنطقة، حتّى لو أنّ “زلزال” سوريا أسقط “الهلال” الشهير وقطع ممرّ طهران – بيروت. لم يعد سلاح “الحزب” عامل قوّة لإيران وسقطت مفاعيله. لكنّ للسلاح وظيفة ابتزاز تهتمّ إيران باستخدامها عبر التلويح به في وجه العواصم المؤتلفة داخل “اللجنة الخماسية”.
طهران تريد استعادة مقعدها
تودّ طهران استعادة مقعدها إلى طاولة ما يُرسم في لبنان وللبنان. وفي عزّ الجدل المضجر بشأن المفاوضات بين واشنطن وطهران، تحرِّك إيران بيدقاً للتشويش على حدث استثنائي في تاريخ لبنان، وربّما للإيحاء لواشنطن بقوّة مناكفة لورقة مبعوثها، توم بارّاك، لعلّ في ذلك ما يغيّر شيئاً من موازين القوى اليائسة على رقعة اللعبة.
من يتأمّل ردّ بيان وزارة الخارجية اللبنانية على ما اقترفه وزير إيران، يكاد يستنتج نصائح، ربّما من دول صديقة، بأن لا يأخذ لبنان الرسمي ما يصدر من طهران على محمل دراماتيكيّ. فنظام الجمهورية الإسلامية يقتات من هذا السلوك، ولا يملك إلّا أن يكون نظام مشاغبة في كلّ المنطقة، حتّى لو أبرم اتّفاقاً في بكين مع السعودية، في آذار 2023، أوحى بفتح طهران صفحةً وعهوداً مع كلّ المنطقة. تعمل طهران على تعطيل جهود السعوديّة لاستعادة لبنان مكانة دولته. يكفي تأمّل حملة منابر “الحزب” الأخيرة ضدّ الرياض ومبعوثها، الأمير يزيد بن فرحان، لاستنتاج مفهوم إيران للعلاقة الصحيحة مع المملكة والمنطقة.
بدت كلمات الوزير الإيراني مُقحَمة من خارج أيّ سياق سيصعب أن يصدّقها “الحزب” أو تأنس لها بيئته، حتّى إنّ مفاعيلها اقتصرت على انسحاب جزئي خجول لوزراء وُصف بأنّه شكليّ من جلسة الخميس. يتقدّم الحدث، على ثقل ظلّه، في يوميّات البلد كأعراض جانبيّة في هامش متنٍ ينجزه لبنان بمواكبة ودعم العالم أجمع. ولا مبالغة في استخدام تعبير “أجمع”، ذلك أنّ الجهات الأربع جميعها تنهي زمن الميليشيات في المنطقة “على الهواء مباشرة” على الرغم من تشويشٍ مصدره طهران على قنوات البثّ المعتمدة.
محمد قواص