بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
في التاسع من أيلول 2025، أُضيفت الدوحة إلى بنك الأهداف الإسرائيليّة. تحوّلت من وسيط ومقرّ للتفاوض لوقف حمّام الدم في غزّة، إلى مسرح لأوّل ضربة علنيّة توجّهها إسرائيل لدولة خليجيّة حليفة للولايات المتّحدة.
جاءت الضربة في وقت كان البيت الأبيض يروّج لقرب التوصّل لاتّفاق لوقف النار. أخفقت إسرائيل في تصفية المفاوضين الكبار في حركة “حماس”، لكنّها نجحت في نسف أبرز قنوات التفاوض. ضربت وسيطاً فعّالاً ودمّرت آفاق التفاوض ولم تبقِ منفذاً للسياسة، ودَفعت بنفسها إلى زاوية خيارات أكثر عسكريّة وأشدّ كلفة. لم تكن الضربة خرقاً عسكريّاً وحسب، بل إعلان سياسيّ لنيّة مواصلة الحرب بلا نهاية.
يعتقد بنيامين نتنياهو وأعوانه المتطرّفون أنّ المفاوضات تمنعهم عن مواصلة مخطّطاتهم لإعادة احتلال قطاع غزّة، وتهجير الفلسطينيّين منه بقوّة القصف والتجويع والإذلال والتدمير والمجازر. كان يخشى أن توافق “حماس” مرّة أخرى على اقتراح المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف من دون تعديل أو تحفّظ كما فعلت في 18 آب الماضي، وهو ما يشكّل حرجاً له أمام الرأي العامّ الدولي وأهالي الأسرى الإسرائيليّين الذين يتّهمونه بالتعنّت وتضييع فرصة إطلاق أبنائهم،ووقف الحرب على غزّة.
يلبّي المقترح الأميركيّ كلّ طلبات تل أبيب، ومع ذلك نتنياهو لا يريده. كانت الضربة من أجل قطع الطريق أمامه، لتبقى فرضيّة الحرب على غزّة هي المسيطرة على المشهد وصولاً إلى تحقيق أهدافه السياسية اللاهوتيّة في أرض إسرائيل الموعودة.
وداعاً للمفاوضات
باختيار الدوحة مكاناً لتنفيذ الهجوم يكون نتنياهو ضرب عصفورين بحجر واحد: المفاوضات، ودور قطر في الوساطة، وهي التي لطالما اتّهمها بدعم الحركة الإسلامية الفلسطينية وعدم الضغط عليها، وارتاب من شبكة علاقاتها المتنوّعة والغنيّة بدءاً من الولايات المتّحدة التي تصنّف الإمارة حليفاً استراتيجيّاً لها، وصولاً إلى إيران الندّ الأكبر لإسرائيل، مروراً بتركيا الساعية إلى دور إقليميّ منافس وكبير.
الاغتيال المفترض للقيادة السياسيّة لـ”حماس”، بعد اغتيال قادتها الكبار الآخرين: إسماعيل هنيّة في طهران، ويحيى السنوار في غزّة، وصالح العاروري في الضاحية الجنوبية لبيروت، سيرسم صورة النصر السياسي والأمنيّ على الحركة، وسيدفع بنتنياهو إلى التباهي أمام النخب الإسرائيلية والإدارة الأميركية بأنّه القائد الكبير الذي خلّص إسرائيل من ألدّ أعدائها، ووفّر الفرصة لاستكمال تجريف القطاع وتهجير أهله والتمهيد لإرضاء الرئيس الأميركي بإقامة “ريفييرا ترامب” على ساحل غزّة.
تزامنت ضربة الدوحة مع استكمال العدوان على غزّة واستباحة الضفّة الغربية وقصف اليمن والغارات اليوميّة على لبنان وسوريا واستهداف أسطول الصمود الدوليّ لدعم غزّة في تونس.
من يضمن ألّا يتكرّر سيناريو الاغتيالات وتوجيه الضربات في الأردن أو الجزائر أو تركيا أو ماليزيا أو مصر التي أعلنت استضافة قادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين؟ ما الذي يمنع نتنياهو المسكون بهاجس القتل والانتقام والاستباحة من جعل كلّ العواصم العربية دوحة أخرى؟
كلّنا أعداء؟
يتعاطى نتنياهو مع الفلسطينيّين واللبنانيّين والسوريّين واليمنيّين والأردنيّين والمصريّين، والآن مع الخليجيّين، كأنّهم نسيج واحد وعدوّ واحد، ولا يميّز في كرهه وصلفه هذا عن ذاك. كلّنا أعداء في الوعي الإسرائيليّ العامّ، بينما لا نزال نحن نفرّق فيما بيننا. نُدفع دفعاً، قسراً أو برضانا، لقطع الصلة والروابط بين المصري وما يجري في قطر، وبين اللبناني وما يجري في العراق أو اليمن، وبين السوري وما يحلّ بالفلسطينيّ في غزّة والضفّة. هكذا يكرهوننا بالجملة ويصطادوننا بالمفرّق.
مارست إسرائيل في الدوحة ما مارسته في طهران وبيروت وبغداد وصنعاء المصنّفة عدوّة. لم تلجأ إلى العمليّات الأمنيّة السرّية لتنفيذ القتل والاغتيالات وسط تكتّم شديد كما تفعل عادة في الدول “الصديقة”. بل كسرت كلّ المحرّمات ونفّذت عمليّتها على المكشوف في وضح النهار وبطائراتها الحربية على مرأى العالم، وبإعلان واضح من نتنياهو.
هل أضافت إسرائيل قطر إلى قائمتها السوداء؟ هل قرّرت النيل من مكانتها في المنطقة وزعزعة الاستثناء الذي كانت تتمتّع به؟ أم في الأمر “رسالة إلى الشرق الأوسط برمّته”، على حدّ قول رئيس الكنيست عمير أوهانا، مفادها أنّ هذا الشرق لإسرائيل وحدها و”لا حصانة لأحد فيه”، وأنّ يدها مطلقة لا يطالها أحد، وفي استطاعتها أن تقتل من تشاء وساعة تشاء وفي أيّ مكان تريد بلا رقيب أو حسيب؟
هل تغيّرت مكانة الدّوحة؟
لدى واشنطن مصالح كبرى في قطر التي تستضيف في “العيديد” أكبر قاعدة جويّة أميركية في منطقة الخليج وبحر العرب والمقرّ المتقدّم لـ”القيادة المركزية الأميركية”، علاوة على مصالح اقتصاديّة كبيرة ومصالح خاصّة لعائلة دونالد ترامب. وما كان لإسرائيل أن تخاطر بإغضاب الرئيس الأميركي بفعل فعلتها من وراء ظهره، وهذا ما يحتّم وجود ضوء أخضر أميركي للعمليّة أو غضّ طرفٍ عنها، مهما حاول نتنياهو نفي التبرير.
هل تغيّرت أيضاً مكانة الدوحة في التصنيف الأميركي؟ أم هدف التخلّص من “حماس” وقادتها وتغيير وجه المنطقة باتا يطغيان أيضاً على كلّ الأولويّات الأميركية الأخرى ولا يفرّقان بين عدوّ أو صديق وحليف؟
لمّا تنتهِ الحرب بين إيران وإسرائيل، وبحكم استضافة الدوحة لقاعدة العيديد ستكون مهدّدة بالتعرّض للقصف مجدّداً والتحوّل مجدّداً إلى ساحة من ساحات حرب غزّة المفتوحة في منطقة تتأرجح على صفيح ساخن.
ما يحدث يرسم صورة قاتمة لمستقبل ذي أفق حالك السواد، لم يعد ينفع فيه وهم الحماية الأميركية ولا الاتّكاء على حواجز التاريخ والجغرافيا، ولذلك يجب الاستناد إلى الذات العربية ووحدة المتضرّرين من المشروع الأخطر على العرب منذ “سايكس بيكو” ووعد بلفور.
أمين قمورية