بقلم د.سمير صالحة
«اساس ميديا»
تعيش تركيا لحظة مفصليّة تتداخل فيها الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة مع تصاعد التوتّر بين الحكم والمعارضة، في ظلّ تراجع الفرص أمام الحلول التوافقيّة. مع كلّ جولة جديدة من التصعيد، يبقى السؤال معلّقاً في الفضاء العامّ: متى وكيف تخرج تركيا من هذا النفق؟ هل هناك خيارات وبدائل مغايرة للاصطفاف الحزبيّ والسياسيّ القائم منذ عقود؟
تتّجه الأنظار في الداخل التركي إلى أكثر من مكان:
1- إلى أعمال اللجنة البرلمانية التي تناقش منذ أسابيع تحت شعار “تركيا بلا إرهاب” وضع خارطة طريق ذات أبعاد قانونيّة وسياسيّة وتحويلها إلى مشروع قانون يقرّه البرلمان يكون فحواه تغيير طريقة التعامل مع الموضوع الكرديّ في البلاد، وهو ما يشير إلى احتمالات إعادة تعريف العلاقة على أسس أقلّ تصادميّة وأكثر احتواء.
2- إلى محكمة أنقرة التي ستنظر يوم 24 تشرين الأوّل الجاري في الطعن المقدَّم بشرعيّة المؤتمر العامّ الـ38 لحزب “الشعب الجمهوري” المعارض، الذي انعقد في مطلع تشرين الثاني 2023، وأسفر عن انتخاب أوزغور أوزيل زعيماً جديداً خلفاً لكمال كليشدار أوغلو، وهو ما قد يفتح الباب أمام أزمة مشروعيّة قد تعمّق الانقسامات التنظيميّة داخل الحزب.
3- إلى مسار العمليّات الأمنيّة والعدليّة التي تُنفَّذ ضدّ العشرات من البلديّات المحسوبة على حزب “الشعب” وعلى رأسها بلديّة إسطنبول ومصير رئيسها المسجون أكرم إمام أوغلو، واحتمال اتّساع الرقعة لتصل إلى بلديّة أنقرة هذه المرّة وتطال رئيسها منصور يواش.
تفتيت المعارضة
من هنا تقدّم قيادات حزب “الشعب” الجمهوريّ المشهد السياسي في الداخل التركيّ على:
– أنّه محاولة لتفتيت الحزب، وبناء معارضة جديدة هزيلة في وجه تحالف الجمهور الحاكم.
– أنّ القاعدة السياسية المعمول بها “من يأتي عبر الصناديق يغادر بقرار منها” لم تعد تعمل في هذه الآونة.
– أنّ هدف “حزب العدالة والتنمية” هو كسب المعركة على الفائزين في الانتخابات بعدما فشل في الفوز بها.
– أنّ مفتاح ذلك هو سلسلة من المحاكمات والدعاوى القضائيّة التي تعتبرها قيادات المعارضة كيديّة وسياسيّة.
بالمقابل، تؤكّد قيادات “تحالف الجمهور” الحاكم أنّ المسألة ليست سياسية بل قضائيّة بحتة، ناتجة عن اتّهامات بالإهمال وسوء الإدارة والفساد الإداري موجّهة إلى العشرات من رموز المعارضة، وخاصّة في البلديّات الكبرى. وترى أنّ الأزمة داخل حزب الشعب الجمهوري نفسه بسبب ما يحمله من صراعات وانقسامات داخلية.وسط هذا الاحتقان، فعّل حزب “الشعب” منذ سبعة أشهر أدوات الضغط الشعبي عبر الشارع لتحقيق أهداف متداخلة، أهمّها إضعاف حزب “العدالة”، ودفعه نحو انتخابات مبكرة، من خلال تسليط الضوء على تفاقم الأزمات الاقتصاديّة والمعيشيّة، وتوظيف تصريحات مثل تلك التي صدرت عن الدبلوماسيّ الأميركي توم بارّاك، والتي تحدّث فيها عن ضرورة منح رجب طيّب إردوغان ما يريده من شرعيّة في الحكم، والدلال السياسي الذي أغدقه الرئيس الأميركي على أردوغان في اجتماع واشنطن. وهو ما أغضب القواعد الشعبيّة التركيّة بأكملها.
تحالف مع الصّين وروسيا؟
في موازاة هذا الجدل الداخليّ، تتقاطع مواقف الأحزاب بشأن مستقبل البلاد وسياساتها الاستراتيجيّة:
1- يدعو دولت بهشلي شريك إردوغان إلى تشكيل تحالف ثلاثيّ استراتيجيّ يجمع تركيا وروسيا والصين، في إطار توجّه استراتيجيّ متعدّد الأبعاد لا يتعارض مع علاقات أنقرة بالغرب. يساهم هذا التحالف في بناء “تركيا القويّة” عبر إعادة تموضعها في النظام العالميّ، وهو ما ينعكس بدوره على السياسات والتوازنات الداخليّة.
2- يعلن أوزغور أوزال أنّ التطبيع مع حزب العدالة انتهى “بسبب إعلان الحرب على حزبنا… ولهذا لن نحضر مراسم استقبال إردوغان في افتتاح الدورة الجديدة للبرلمان التركي”.
3- يعِد فاتح أربكان، رئيس حزب “الرفاه من جديد” المعارض، بتأسيس نظام اقتصاديّ عادل يضمن الكرامة الاجتماعيّة ويوفّر متطلّبات الحياة الأساسيّة ويعالج مشكلات البطالة والفقر ضمن رؤية شاملة للدولة العادلة.
4- يدعو تونجر باقرهان، الرئيس المشارك في حزب “ديم”، إلى تحويل المسار الجديد إلى حوار سياسيّ شامل يضمّ كلّ مكوّنات المجتمع التركيّ.
أين جيل “زد”؟
لكن في ظلّ هذا الانسداد الحزبيّ والاستقطاب التقليديّ، يبرز عنصر جديد في المعادلة التركيّة قد يحمل مفاتيح التغيير الحقيقيّ: جيل “زد” والتيّار الثالث، وهو ما يشير إلى تحوّل بنيويّ في خارطة التأثير الانتخابيّ ينقل مركز الثقل من الأحزاب إلى الكتل الاجتماعيّة الناشئة.
يشكّل جيل “زد”، أي المولودون بين منتصف التسعينيّات وأوائل الألفية، ما يقارب 12% من إجمالي الناخبين، أي حوالي ستّة ملايين صوت شابّ في انتخابات 2023 غالبيّتهم تصوّت للمرّة الأولى. أشارت استطلاعات الرأي إلى أنّ نسبة تأييدهم لتحالف المعارضة كانت تقارب ضعف ما حصل عليه تحالف الحكم.
مع تصاعد وعي هذا الجيل السياسي والاجتماعي، يُطرح السؤال من جديد: كيف ستتصرّف هذه الكتلة الشبابيّة في الانتخابات المقبلة؟ هل تبقى منقسمة بين التحالفات التقليديّة أم تقود تحوّلاً فعليّاً في اتّجاه جديد؟
على الرغم من أنّ هذا الجيل أظهر حيويّة سياسيّة لافتة، بقيت محاولات جذبه مشتّتة نتيجة غياب الرؤية الموحّدة، أو البرنامج السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ المؤثّر. هل تظلّ هذه الكتلة قوّة صامتة أم تفرض مساراً جديداً على المشهد السياسي في الانتخابات المقبلة عنوانه ولادة التيّار الثالث؟ أيّ مسارات ستتبنّاها القواعد الشعبيّة باتّجاه التغيير الحقيقيّ في ظلّ أزمة اصطفافات متراكمة لا تتيح بروز تيّارات بديلة بسهولة؟
في الداخل التركي مَن لا يزال يراهن على طاقة الشباب، وعلى قدرة جيل “زد” على تسجيل اختراق قد يفتح الطريق أمام ولادة التيّار الثالث المنتظَر. هل ينجح هذا الجيل في كسر قفل الاستقطاب المغلق، وكتابة سرديّة سياسية جديدة في البلاد أم تظلّ لحظة التيّار الثالث مؤجّلة، بانتظار “غودو”… الذي لا يأتي؟
د.سمير صالحة