بقلم د. ابراهيم العرب
يُعدّ قانون تنظيم القضاء العدلي أحد أكثر القوانين حساسية في البنية الدستورية اللبنانية، لكونه يتصل مباشرة بجوهر مبدأ فصل السلطات وبالضمانات الدستورية لاستقلال السلطة القضائية. وقد جاء إقرار هذا القانون، بعد إعادته من رئيس الجمهورية بموجب مرسوم ردّ، في سياق وطني ودولي ضاغط، يتّسم بتراجع ثقة المواطنين بالقضاء بسبب التدخلات السياسية، وبالمطالبة بإصلاحات بنيوية تُعيد الاعتبار لدور القضاء كسلطة حامية للحقوق والحريات.
وقد انحصرت الملاحظات الجوهرية الواردة في مرسوم الردّ الرئاسي بثلاث مسائل أساسية، تتعلّق بحدود صلاحيات النائب العام التمييزي، وبمدى حق الطعن في القرارات القضائية والتنظيمية أمام القاضي الإداري الطبيعي، وبآلية نفاذ التشكيلات القضائية في حال امتناع السلطة التنفيذية عن إصدار المرسوم ضمن مهلة محددة. وهي مسائل تمسّ صميم استقلال القضاء، وتستدعي قراءة قانونية معمّقة في التعديلات التي أُقرّت على ضوئها.
أولًا: التراجع عن تضخيم صلاحيات النائب العام التمييزي
من أبرز التعديلات التي أُدخلت على النصّ النهائي للقانون، التراجع الصريح عن منح النائب العام التمييزي صلاحية إعطاء تعليمات لأعضاء النيابة العامة بكفّ التعقبات في ملفات قيد النظر. وهي صلاحية استثنائية كانت قد أُضيفت في مرحلة متأخرة من مسار التشريع، من دون أن ترد في أي من الصيغ السابقة لمشروع القانون أو اقتراحاته.
ولم نكن نؤيد صراحة تقييد صلاحية النائب العام التمييزي، فضلًا عن كونه مدخلًا واسعًا لتكريس تقليص دور النيابة العامة التمييزية، لا سيما في القضايا ذات الطابع العام أو المتصلة بالفساد والجرائم الكبرى.
ولكن رئيس الجمهورية طلب في ملاحظته شطب هذه الصلاحية، نظرًا لرغبته بتقييد سلطة النائب العام التمييزي عبر اشتراط أن تكون تعليماته خطية ومعلّلة، تعزيزًا لاستقلال أعضاء النيابة العامة. واستجابت لجنة الإدارة والعدل بالإجماع لهذه الملاحظة، ما يُعدّ خطوة أساسية في التعديلات الجديدة.
ثانيًا: ضمان حق الطعن أمام القاضي الإداري: استقلال جزئي لا مكتمل
إن المسألة الثانية ذات الأهمية الدستورية البالغة تتعلّق بحق القضاة في الطعن في القرارات الصادرة عن الهيئات القضائية، ولاسيما مجلس القضاء الأعلى، أمام القاضي الإداري الطبيعي، أي مجلس شورى الدولة. وقد اكتسبت هذه المسألة بعدًا مميّزًا مع استخدام الرئاسة، بصورة لافتة، لمفهوم «القاضي الطبيعي»، بما يحمله من دلالات دستورية راسخة في فقه القضاء الإداري.
ومن حيث المبدأ، إن إخضاع القرارات الإدارية، ولو صدرت عن سلطة قضائية، لرقابة القضاء الإداري يشكّل ضمانة أساسية ضد التعسف، ويُترجم مبدأ المشروعية وسيادة القانون. وقد كان يفترض، استنادًا إلى ملاحظات الردّ الرئاسي، إدخال تعديلات شاملة تطال المواد المتصلة بالطعن في القرارات التنظيمية والفردية، والقرارات التأديبية، ونتائج التقييم، وقرارات عدم الأهلية. غير أن لجنة الإدارة والعدل اكتفت بتعديلات جزئية، أبرزها:
حذف القيد الوارد في مسألة حصر رقابة مجلس شورى الدولة بشرعية القرارات دون ملاءمتها، ما يفتح الباب أمام رقابة قضائية أوسع؛ تعديل ما يجيز للقاضي الطعن بقرار رفض هيئة التقييم مراجعة الأداء، ولا سيما في حال حصوله على أدنى درجة تقييم.
وهذه التعديلات، وإن شكّلت تطورًا إيجابيًا ملحوظًا في تمكين القاضي من الدفاع عن مساره المهني، إلا أنها أبقت الطعون في القرارات التأديبية على حالها، خلافًا لما استقر عليه اجتهاد المجلس الدستوري، ولا سيما ما يجعل الحماية القضائية للقاضي منقوصة وغير مكتملة.
ثالثًا: التشكيلات القضائية بين الاستقلال والتعطيل
تُعدّ مسألة التشكيلات القضائية حجر الزاوية في أي إصلاح قضائي حقيقي. وقد تضمّن مشروع القانون إصلاحًا جوهريًا تمثّل في جعل التشكيلات التي يضعها مجلس القضاء الأعلى نافذة حكمًا في حال عدم إصدار مرسوم التشكيلات من السلطة التنفيذية خلال مهلة 45 يومًا، بما يحدّ من قدرة السلطة السياسية على التعطيل.
إلا أن التعديل الذي أُدخل لاحقًا، استجابةً لملاحظة رئيس الجمهورية، أفرغ هذا الإصلاح من جزء كبير من فعاليته، من خلال اشتراط إعادة التصويت داخل مجلس القضاء الأعلى بأكثرية معزّزة (7 من أصل 10 أعضاء)، سواء في حال الخلاف مع وزير العدل أو حتى في حال الاتفاق معه إذا لم يصدر المرسوم ضمن المهلة. وهي غالبية يصعب تحقيقها عمليًا، وقد تؤدي إلى شلل مؤسسي يُعيد إنتاج التعطيل بصيغة جديدة. وكان من الأجدى الأخذ بتوصيات لجنة البندقية، التي دعت إلى تخفيض الغالبية المطلوبة لتجاوز اعتراض السلطة التنفيذية، منعًا لاستخدامها كأداة ضغط سياسي على القضاء، لا سيما أن هذا الطرح حظي بتأييد وزير العدل نفسه.
في المحصلة، إن قانون تنظيم القضاء العدلي بصيغته المُقرّة يُمثّل خطوة متقدمة، وإن غير مكتملة، في مسار تعزيز استقلالية السلطة القضائية في لبنان. فقد نجح في تصحيح اختلالات خطيرة، أبرزها تكريس مبدأ الطعن أمام القاضي الطبيعي في بعض القرارات القضائية، لكنه في المقابل أبقى على ثغرات بنيوية، لا سيما في تركيبة مجلس القضاء الأعلى وفي آليات حسم التشكيلات القضائية وتقييد صلاحية النائب العام التمييزي.
وعليه، فإن هذا القانون لا يمكن اعتباره نهاية مسار الإصلاح القضائي، بل محطة أساسية تستوجب استكمالها بتعديلات لاحقة، تضمن استقلالًا فعليًا لا شكليًا، وتُحصّن القضاء من أي تدخل سياسي، بما يُعيد الثقة العامة بالقضاء كسلطة دستورية مستقلة، لا كوظيفة إدارية خاضعة لموازين القوى.
د. ابراهيم العرب