بقلم بديع يونس
«أساس ميديا»
منذ قرابة خمسين عاماً، هذه المرّة غير كلّ المرّات. دور “اليونيفيل” خلال الأشهر الستّة عشر التي حدّدها قرار مجلس الأمن، لن يكون هو ذاته، ولا تمديد جديداً بعدها. وبالتالي انتهى زمن “الصيف والشتاء فوق سقف واحد” بالنسبة لـ”الحزب”.
“حرب الإسناد” الخاسرة
على الرغم من كلّ المعوّقات التي سبقت القرار، يؤكّد المراقبون أنّه أشبه بإسفين يُدقّ في نعش “حرب الإسناد” التي دخلها “الحزب” ودفع ثمنها أهالي الجنوب وكلّ لبنان ولم تكن سوى انتحار لـ”الحزب” جرّته إليه إيران وتملّصت منه في الوقت الحرج، فكانت النتيجة حرب استنزاف ودمار واغتيالات طالت كبار قادة “الحزب” وعلى رأسهم السيّد حسن نصرالله وخليفته.
في 5 و7 آب صدر قرار الحكومة التاريخي القاضي بحصر السلاح بيد الدولة الذي بدأ بالمخيّمات الفلسطينية ويُستكمل بتقديم الجيش خطّة لسحب السلاح في مهلة أقصاها نهاية العام الحالي.
يخوض “الحزب” امتحان الصدقيّة أمام الشعب اللبنانيّ في اختيار طريقه:
1- الامتثال للأوامر الإيرانية بعدم تسليم هذا السلاح قبل “تقريش” ثمن هذه الخطوة في المفاوضات النوويّة، فيجرّ مناصريه إلى تصادم مع الشرعيّة.
2- اتّخاذ موقف “وطنيّ” تاريخي يحقن الدماء ويحوّله إلى حزب سياسيّ في كنف دولة طبيعيّة تحتكر القوّة والسلاح، وتنزع من على طاولة رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرّف بنيامين نتنياهو الذريعة التي بنى عليها مذابحه مستغلّاً “شمّاعة” الحزب وسلاحه.
دور “غير مسبوق” لليونيفيل
اعتاد “الحزب” منذ عام 2006 التعاطي بازدواجيّة مع قوات “اليونيفيل” وتكبيل دورها، تارة عبر “الأهالي” في اشتباكات، وتارة أخرى باستخدام القوّات الدولية و”أمنها وأمانها” كورقة ضغط على الدول الأوروبية المشاركة فيها. أمّا دور الجيش اللبناني “الأساسيّ” المحدّد في النصوص والذي يلحظه القرار 1701 فبقي مكبّلاً لاعتبارات سياسيّة ولهيمنة “الحزب” على القرار السياسيّ.
كانت المعادلة التي فرضها “الحزب” جنوباً منذ 2006 وفصّلها على مقاسه، أشبه بمعادلة “رابح – رابح” بالنسبة له و”خاسر – خاسر” بالنسبة لأهالي الجنوب وكلّ لبنان. استغلّ وجود “اليونيفيل” للاحتماء من إسرائيل، ومنع القوّات الدولية عبر “الأهالي” من تنفيذ دورها في الكشف والتصدّي لتخزين السلاح وإنشاء بنية عسكرية في المنطقة الجنوبية.
أمّا اليوم، بعد “حرب الإسناد” الخاسرة، وما نجم عنها من تحوّلات في الميدان والسياسة، فالجيش يأتمر بقرار سياسي سياديّ وقوّات “اليونيفيل” بقرار دوليّ واضح بـ”منع وجود “الحزب” أو سلاحه جنوباً” وإلّا فالطائرات الإسرائيلية بالمرصاد من دون أيّ اعتبارات.
ورد في النقطة الـ12 من قرار مجلس الأمن الأخير ما يترجم فعليّاً التحوّل الحاصل. إذ “يدعو حكومة لبنان إلى تعزيز التنسيق بين “اليونيفيل” والقوّات المسلّحة اللبنانية وتيسير وصول “اليونيفيل” السريع والكامل إلى المواقع التي تطلبها لأغراض التحقيق العاجل، بما في ذلك جميع المواقع ذات الاهتمام، ضمن ولايتها”.
يضيف في النقطة التالية أنّه “يدعو “الآليّة” المنصوص عليها في ترتيبات “وقف الأعمال العدائية” بين إسرائيل ولبنان المؤرّخة في 26 تشرين الثاني 2024 (S/2024/870) و”اليونيفيل” إلى التعاون، في إطار ولاية “اليونيفيل” وحصراً ضمن نطاق منطقة عمليّاتها جنوب نهر الليطاني، على تنفيذ ولايتيهما. ويشجّع “اليونيفيل”، ضمن ولايتها وقدراتها ودورها في الرصد والتحقّق، على تقديم الدعم لتلك الآليّة بالمساعدة على كفالة إنفاذ الالتزامات التي تعهّدت بها إسرائيل ولبنان وفي رصد الإخلالات بالقرار 1701 (2006) والإبلاغ عنها”.
إذاً انتهى الصيف والشتاء تحت سقف واحد بالنسبة لـ”الحزب”. والمعادلة واضحة: “اليونيفيل” بالتنسيق مع الجيش اللبناني بين عامَي 2025 و2026 بالمرصاد لأيّ تحرّكات عسكرية لـ”الحزب” في المنطقة جنوب الليطاني.
التّمديد الأخير صفعة اقتصاديّة
سيكون هذا التمديد الأخير، وهذا أيضاً يتحمّل مسؤوليّته “الحزب”. فعلى مدار قرابة خمسين عاماً صرفت “اليونيفيل” في لبنان 25 مليار دولار تقريباً (ميزانيّتها السنوية تقارب 550 مليون دولار). بعد 16 شهراً، ومع انتهاء مهمّتها نهائيّاً سيكون الضرر الاقتصادي على أهالي الجنوب ملموساً. سيتمّ إفقال مطاعم ومحالّ وسوبرماركت ومعامل حليب وألبان ومصابغ، وستتوقّف أرزاق متعهّدين ومعامل تعاقدت لعقود مع قوّات حفظ السلام لتوفير احتياجاتها. كلّ هذه الأموال التي كانت تذهب إلى جيوب أهالي الجنوب ستتوقّف. وهذا ثمن آخر من “حرب الإسناد” ومن مغامرات “الحزب” العسكريّة غير الناجعة التي كشفتها الحرب الأخيرة المدمّرة.
خسارة “الحليف الفرنسيّ”
سيكون دور “اليونيفيل” في هذه الولاية الأخيرة مختلفاً. لا يمكن لـ”الحزب” بعد اليوم أن يتعامل معها وفق مصالحه. لا يمكنه استخدامها “مظلّة” تقيه من إسرائيل، ولن تتغاضى “اليونيفيل” عن تحرّكاته العسكرية جنوباً. أمّا الجيش اللبناني فسينفّذ القرار السياسي، والقرار السياسي قُضي بـ”حصريّة السلاح”.
سقطت ورقة تهديد قوّات “اليونيفيل” و”أمنها وأمانها” التي ابتزّ بها “الحزب” الأوروبيّين لعقود، وبينهم الفرنسيون. الضغط الدولي جامع وفرنسا باتت في المقلب الآخر.
القرار الأخير بالتمديد لـ”اليونيفيل” كان بقيادة فرنسا (والدول الأوروبية) من جهة، والولايات المتّحدة من جهة أخرى، ووضع فيه مجلس الأمن خريطة طريق تحدّد مساراً زمنيّاً لمستقبل لبنان وتبدأ بالتجديد 16 شهراً (وهو التجديد الأخير) مع بسط السيطرة التامّة للدولة اللبنانية على كلّ أراضيها، وحصر السلاح بيدها على مؤسساتها تطبيقاً للقرارات 1559 و1680 و1701. وصوّت مجلس الأمن بالإجماع على القرار 2790.
استعادت فرنسا التي تحوّلت في السنوات السابقة من “الأمّ الحنون” على لبنان إلى “الأمّ الحنون” على “الحزب”، دورها الأوروبي والدولي بوجه “الحزب”، الذي خسر “حليفاً” خفيّاً مسايراً، وباتت باريس رأس حربة في تطبيق القرار 1701، وهو ما يزيد من شجاعة الحكومة في تطبيق قرارها على وقع الإجماع الغربي بدون تباينات حول هذه الخطوة.
للتذكير، قبل جلسة 5 آب، صارح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون رئيس الحكومة اللبنانية نوّاف سلام في الإليزيه قائلاً: “لا خيار أمام لبنان سوى حصر السلاح بيد الدولة”. فعاد نوّاف سلام إلى لبنان وشدّ أزر رئيس الجمهورية والوزراء ناقلاً إليهم كلام ماكرون عن المخاطر الحقيقية المحدقة بلبنان وعلى رأسها “تنفيذ التهديد الإسرائيلي بالقوّة وتوسيع وجود الاحتلال جنوباً”، فكان القرار في 5 آب وما تلاه في 7 آب.
“التعنّت” الإيرانيّ الذي أمر “الحزب” بالخروج بتصريحات “عالية النبرة” هو نفسه ويحاكي مصير طهران مع الترويكا الأوروبية التي فتحت لها المجال عدّة مرّات للتفاوض، فكان أن دفع عدم تجاوب إيران الترويكا لتفعيل آليّة الزناد بوجهها.
جرّب “الحزب” إيران ولمس “أنانيّة نظامها”. فطهران مستعدّة للتضحية بـ”الحزب” وبأهالي الجنوب وبكلّ لبنان من أجل مصالحها ووفق توقيتها. أكبر خسائر “حرب الإسناد” دفع ثمنها “الحزب” ولا يزال، فيما إيران اليوم تفاوض “الشيطان الأكبر” تارة وتتعثّر، وطوراً الأوروبيين، ومتى تذلّلت العقبات و”قرّشتها” ستضحّي مجدّداً بـ”الحزب” على مذبح مصالحها. “الحزب” اليوم أمام وقفة تاريخية: إمّا التسليم للشرعية اللبنانية وحفظ ماء الوجه أمام كلّ المكوّنات اللبنانية وعلى رأسها الطائفة الشيعية الكريمة، وإمّا مواصلة الغوص في مستنقعٍ قعره معلوم، ويومها قد يكون الوقت قد نفد وطنيّاً.
بديع يونس