بقلم محمد قواص
«أساس ميديا»
في منشوره الأحدث، كتب مبعوث الرئاسة الأميركية توم بارّاك من خارج لبنان: “ما دام “الحزب” يحتفظ بالسلاح، فإنّ الكلمات لن تكفي. على الحكومة و”الحزب” الالتزام الكامل والتصرّف فوراً”. وخلال زيارته الأخيرة للبلد ردّد أنّ مسؤوليّة “حصريّة السلاح” بيد الدولة في لبنان هي لبنانيّة. مفيد الكلام أنّ على لبنان أن ينزع شوكه بيده، أي أن تتولّى الدولة نزع سلاح “الحزب” بقواها، الناعمة أو الخشنة أو الاثنتين معاً.
أتى رجل أميركا إلى لبنان (كما أتى المبعوثون الأميركيون قبله) ليناقش مع “أهل الدولة” أمراً لا يمتلكون قراره. وعد “خطاب القسم” و”البيان الوزاري” بالقبض على السلاح وجعله حصريّاً في يد الدولة، وما زال رئيسا السلطة في “القصر” و”السراي” متمسّكين بهذا الوعد، لكنّ لسان حالهما يكاد يقول “العين بصيرة واليد قصيرة”.
تغيّرت أحوال البلد منذ أتت التحوّلات الخارجية والداخلية بالرئيسين جوزف عون ونوّاف سلام، لكنّ التحوّلات الخارجية نفسها، لا سيما المرتبطة بموقف إيران، لم تستطع التأثير على “أصحاب السلاح”، حتّى الآن على الأقلّ. وبات مطلوباً من الداخل اللبناني الهشّ أن يذعن لضغوط خارجٍ سبق للبنان أن خبر شلله حين استُخدم السلاح نفسه ضدّ الداخل في لبنان اغتيالاً وفتنة وبلطجة “قمصان سود”.
المعركة مكلفة للجيش
لا شكّ أنّ الولايات المتّحدة التي أرسلت موفدها للمرّة الثالثة إلينا للتداول في الملفّ نفسه تدرك، وهي التي تعرف رئيس جمهوريّتنا منذ أن كان قائداً للجيش، أحوال قوّاتنا المسلّحة العسكرية والأمنيّة. زار العماد عون واشنطن حينها مراراً. استضافه البنتاغون، وجرى التداول مليّاً معه بشأن مستويات التسليح التي يتمنّاها قائد الجيش لجيشه. تدرك واشنطن أيضاً أنّ أيّ معركة يخوضها جيشنا النظامي مع ذلك السلاح غير الشرعي سيكون مكلفاً وسيستنزف قوّات وقوى محدودة الحجم وسريعة النفاذ.
لكنّ واشنطن وسفارتها الهائلة المساحة في لبنان تعرف بالتفصيل أيضاً الخصوصيّة الفسيفسائيّة للتركيبة اللبنانيّة، والحساسيّة الطائفية التي يعنيها صدام “الجيش الوطني” مع ما يُعتبر “سلاح الشيعة” من قبل كثير من الشيعة وليس “الحزب” وحده فقط. ولئن يتمترس “الحزب” خلف الطائفة والزعم أنّه بذاته وسلاحه حامٍ لها، فإنّ الأمر الواقع لم تقوّضه الانتخابات الأخيرة بطابعها المحلّي والبلدي أو تلك النيابية قبلها.
بالمقابل، لا يفصح “التفهّم” الحذر الذي يتمسّك به رئيس الجمهورية، والذي التحق رئيس الحكومة بتبنّيه بوضوح، عن الكيفية التي سيفي بها الرئيسان بما تعهّداه يوم “القسم” في مجلس النوّاب ويوم بيان الحكومة أمامه لنيل الثقة. صحيح أنّ “الحزب” يماطل ويتباطأ شراءً للوقت وتوسّلاً لتغيير في أحوال الدنيا وتبدّل في موازين القوى، لكنّ لبنان لا يملك ترف الوقت ونعمة الكفر بالفرص، التي قد لا يلتفت المجتمع الدولي إلى إعادة توفيرها في زمن تستقطبه أولويّات تتجاوز حكمة دولة ودلال ميليشيا.
لا شكّ أنّ المسؤولين الذين يلتقون بارّاك يردّدون أمامه هواجس صدامِ الدولة مع ما كانت دويلة، ولا شكّ أيضاً أنّه قد التقى مع قيادات تشاطره التبرّم من حذر الدولة وضعف حيلتها، ولا شكّ أنّه حمل أجوبة عمليّة بشأن تواضع الإمكانات ومخاطر الصدام على السلم الأهليّ، وحمل رؤية أميركية لمن في لبنان يحرّضون الدولة على أن تحزم أمرها وتنفّذ وعودها.
الدّوّامة هديّة لـ”الحزب”
تكمن قوّة الولايات المتّحدة بحصريّة قدرتها دوليّاً على الضغط على إسرائيل. وحدها واشنطن، التي تملك 99 في المئة من أوراق الصراع في الشرق الأوسط وفق المقولة الشهيرة للرئيس المصري الراحل أنور السادات، تستطيع نظريّاً التعهّد بما يطمئن لبنان الرسمي إلى انسحاب إسرائيلي كامل من جنوب لبنان. ولئن يجد “الحزب” في غياب الضمانات حجّة يعتمدها ليبرّر الاحتفاظ بسلاحه، فإنّ عدم وجود الضمانات، لا بل الإعلان أنّها لن توجد أصلاً، تحت عنوان “نحن لا نضغط نحن وسطاء نساعد”، يُدخل لبنان في دوّامة هي هديّة مجّانية لـ”الحزب” ومرجعيّته في طهران.
تكشف “اللطافة” الزائدة التي يبديها المبعوث الأميركي وتكراره الحديث عن إيجابيّة كلّما التقى الرؤساء الثلاثة واحداً بعد آخر، عن تمرين لياقة يواري في ثناياه أعراض “ملل” من ملفّ هو في الأصل ملفّ أمنيّ إسرائيليّ في الحسابات الأميركية التقليدية. فحتّى حين يُسأل عن المُهل لتسليم السلاح، يقرّ بأنّها إسرائيلية، وهو ما يعني أنّه يبلغ من يهمّه الأمر أنّ قرار الحرب الإسرائيلية متّخذ في نهاية “فترة السماح”. ووفق ذلك الواقع يُخيَّر لبنان بين حربه الذاتية التي قد تنحدر إلى طابع أهليّ مقيت، أو إلى حرب إسرائيلية عرفها لبنان و”الحزب” وبيئته.
لا يملك بارّاك إلّا حمل ما يمكن أن يصل بالبلد إلى حروب. ولا يملك “الحزب” إلّا الوعد بتلك الحروب في هروبه الدائم إلى الأمام وفق ما توعّد به أمينه العامّ الشيخ نعيم قاسم. ولا تملك إسرائيل إلّا الحروب في زمن ما بعد “طوفان الأقصى”.
إذا ما كان نصر المتحاربين “صبر ساعة”، فإنّ معركة الزمن مندلعة تخوضها إيران لمنع الترويكا الأوروبية من اللجوء إلى”آليّة الزناد” التي يتضمّنها الاتّفاق النووي ويتيح تفعيلها إعادة العمل بكلّ العقوبات الدولية التي علّقها اتّفاق فيينا لعام 2015. وتخوضها عبر المناورة لعدم استعجال مفاوضات تمكّن واشنطن من تجريدها من احتمالية امتلاك سلاح نووي. وفيما يهوّل الرئيس الأميركي بالعودة إلى لغة الصدام العسكري مع إيران، فإنّ “الحزب” في لبنان يتمتّع في الوقت الضائع بتأمّل مواقيت طهران والتدثّر ببوصلة بيروت الحائرة.
محمد قواص