بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
بين عامَي 1881 و1924 هاجر عدّة ملايين من يهود أوروبا الشرقية إلى الولايات المتّحدة الأميركية. وحملوا معهم صور وحكايات مأساة اضطهادهم وتحقيرهم والتنكيل بهم. وتشكّل ذكريات اقتحام الكُنُس اليهوديّة والبيوت ثقافة الذاكرة الجماعية ليهود أوروبا الشرقية. وهي الثقافة التي حملوها معهم إلى فلسطين منذ عام 1948 والتي تترجمها اليوم أعمالهم الانتقامية من العدوّ الخطأ في الضفّة الغربية وغزّة.
يردّد اليهود في صلواتهم بمناسبة عيد الغفران، “يوم كابور”، قصص اضطهاد أسلافهم على يد الرومان. وكيف أحرق الرومان الحاخام “ابن ترديون” بعدما غلّفوه بأوراق التوراة. ويذكرون في صلواتهم أنّ الحاخام ردّد وهو يحترق: “صحيح أنّ الأوراق تحترق لكنّ كلمات الإيمان تتطاير حرّة في الفضاء”.
في تعاليم التوراة أوّل نصّ ديني يدعو إلى عدم إيذاء الغريب وإلى محبّة الجار كمحبّة الإنسان لنفسه. ولكنّ هذا النصّ لم ينقذ اليهود من عقاب الاضطهاد الذي تعرّضوا له في أوروبا الشرقية أوّلاً، ثمّ في أوروبا الغربية. حتّى إنّهم مُنعوا من دخول كلّ من فرنسا وبريطانيا… فربّما قالوا به ولم يمارسوه. والدليل على ذلك ما جرى في فلسطين المحتلّة في عام 1948، وما يجري اليوم في غزّة والضفّة الغربية.
تعرّض اليهود للتنكيل على أيدي البابليّين والرومان قبل أن يتعرّضوا للتنكيل على أيدي الروس والأوروبيين. “المحرقة” التي تعرّضوا لها على يد هتلر والنازيّة لم تكن الأولى في التاريخ اليهودي الطويل. ولكنّهم بعد تلك المحرقة رفعوا شعاراً يقول: “لا محرقة بعد الآن”. ولكنّ المحرقة تجدّدت هذه المرّة في غزّة وعلى أيديهم بالذات.
في إسرائيل وليس في اليهوديّة
ليس جميع اليهود شركاء في هذه الجريمة الجماعية ضدّ الإنسانيّة. رفع الكثير منهم الصوت عالياً ضدّها. وتخلّى مفكّرون وأدباء وعلماء عن جنسيّاتهم الإسرائيلية “لإراحة ضمائرهم” من المسؤولية المعنويّة عمّا جرى ويجري. ولكنّ تبقى ثقافة الانتقام من الغير هي السائدة في إسرائيل وليس في اليهوديّة.
من هنا التمييز بين اليهوديّة التي تعرّض المؤمنون بها للاضطهاد والتنكيل في أوروبا قديماً وحديثاً، وبين الصهيونية التي تمارس الاضطهاد والتنكيل في فلسطين منذ أن قرّرت تحويلها إلى وطن قوميّ صهيوني تحت مظلّة يهودية.
تعلو في معظم بيوت العبادة اليهودية “الكنس” عبارات تقول: “من أجل أولئك الذين قُتلوا دفاعاً عن اسمك (الله) المقدّس”. و”من أجل أولئك الذين ذُبحوا من أجل قدسيّتك”. ولكن بعد الجرائم الجماعية التي ارتُكبت في فلسطين، والتي تُرتكب اليوم في غزّة والضفّة الغربية على يد المستوطنين الصهاينة، أيّ عبارات يمكن أن تُرفع في “الكنس” التي يمارسون فيها عبادة الله… احتراماً لاسمه أو لقدسيّته؟
شكّلت سلسلة محن وكوارث الاضطهاد التي تعرّض لها اليهود على مدى التاريخ، ثقافة كراهية الآخر واستعدائه. ومع أنّ تاريخ الاضطهاد لم يشمل العرب ولا المسلمين، فإنّ الانتقام يستهدفهم بالدرجة الأولى. لا يعني ذلك أنّ اليهود في عمق إيمانهم وثقافتهم لا يكرهون الآخرين، حتّى أولئك الذين يساعدونهم بالمال والسلاح والسياسة، فقد بلغت كراهيتهم لكارهيهم أن جيّشوا نفوذ الصهيونية لوقف إجراءات تقديس أحد البابوات بحجّة أنّه خلال الغزو النازيّ لإيطاليا لم يقُم بما فيه الكفاية (؟) للدفاع عن اليهود الإيطاليين، مع أنّ البابا احتضن الآلاف منهم سرّاً في الأديرة التابعة له.
كانت الكنيسة تعتبر اليهود بالمطلق مسؤولين عن جريمة صلب السيّد المسيح، وأنّ هذه المسؤوليّة الجماعية تستمرّ حتّى يوم الدينونة. يعتقد اليهود أنّ هذه الثقافة الدينية عزّزت مشاعر كراهية اليهود، التي أصبحت جزءاً أساسيّاً من الثقافة العامّة في أوروبا والأميركيّتين (الشمالية والجنوبية). ولكن في عام 1965 صدر موقف مبدئي جديد عن الفاتيكان من خلال وثيقة “نوسترا إيتاتي Nostra Aetate” (المجمع الفاتيكاني الثاني) يحصر مسؤوليّة جريمة صلب السيّد المسيح باليهود الذين ارتكبوا تلك الجريمة. ولكنّ ثقافة الكراهية كانت قد تأصّلت في المجتمعات المسيحية حتّى أصبحت جزءاً منها.
كان التهجير اليهودي إلى فلسطين وهي تحت الانتداب البريطاني تعبيراً عن الرغبة في التخلّص منهم. حتّى الولايات المتّحدة أعادت سفينة مهاجرين يهود من أوروبا إلى فلسطين، قبل أن تتمكّن الصهيونية العالمية من الهيمنة على القرار السياسي الأميركي، المستمرّة حتّى اليوم!
لا وجود لإسرائيل في الوقت الرّاهن
قبل نحو عامين أصدر الكنيست (البرلمان) الإسرائيلي قانوناً دستوريّاً يعلن إسرائيل دولةً يهوديّة. ولكنّ اليهود يؤمنون بأنّ من يعلن الدولة هو المسيح المنتظر الذي لم يأتِ بعد، وبالتالي لا شرعية دينية في نظرهم ليس فقط لما أعلنه الكنيست، إنّما لمبدأ وجود إسرائيل في الوقت الراهن.
هكذا يختلط الإيمان بالسياسة كما تختلط ثقافة الكراهية بالانتقام، كراهية النازيّة والانتقام من غزّة!
محمد السماك