الذكرى الثالثة والسبعون لثورة يوليو ودورها في دعم القضية الفلسطينية

المحامي أسامة العرب
تحلّ الذكرى الثالثة والسبعون لثورة 23 يوليو 1952 في وقت تمرّ فيه غزة بظروف إنسانية كارثية، تتجسّد في التجويع والتهجير والإبادة، بينما تواجه الضفة الغربية موجة غير مسبوقة من الاستيطان العنصري منذ نشأة الكيان الإسرائيلي. ومع تفجر أحداث «طوفان الأقصى»، عاد اسم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ليتردّد بقوّة في الأوساط العربية والإسلامية، حيث استُحضرت أقواله ومواقفه المتعلقة بفلسطين والمقاومة على نطاق واسع، تعبيرًا عن حنين شعبي إلى مرحلة كانت فيها القيادة المصرية وما زالت في طليعة المدافعين عن القضية الفلسطينية، حريصة على تقديم الدعم غير المشروط للشعب الفلسطيني. وقد بدا واضحًا حجم الفجوة بين المواقف التاريخية لعبد الناصر، الذي وظّف إمكانات مصر كافة لنصرة فلسطين، وبين الواقع العربي الراهن، العاجز عن إيصال رغيف خبز واحد إلى سكان غزة المحاصرين من البر والبحر والجو.
إلا أن العلاقة بين ثورة يوليو والقضية الفلسطينية لا تقتصر على المواقف العاطفية أو المبادرات الآنية. فقد شكّلت هذه الثورة، بقيادة ضباط شاركوا في حرب 1948، نقطة تحوّل استراتيجية غيّرت مسار القضية الفلسطينية، وما زال تأثيرها ممتدًا حتى اليوم. فالمقاومة الفلسطينية لم تبدأ مع الثورة، بل تعود إلى بدايات القرن العشرين مع تنامي الهجرات اليهودية وبدء الاستيطان على أنقاض أراضي الفلسطينيين، بدعم بريطاني بعد انهيار الدولة العثمانية. كما أن الوعي العربي بالمخاطر المحدقة بفلسطين كان قائمًا منذ عشرينيات القرن الماضي في عدد من العواصم العربية، وقد انطلقت مبادرات دعم للفلسطينيين قبل 1952، وإن كانت محدودة في نطاقها.
لكن ما ميّز ثورة يوليو هو إدماج القضية الفلسطينية في صميم المشروع القومي العربي، وتحويلها إلى محور رئيسي ضمن معادلة الأمن القومي. فقد قدّم عبد الناصر مقاربة جديدة، لم ترَ إسرائيل مجرد مشكلة دينية أو محلية، بل مشروعًا استعمارياً وظيفياً يخدم القوى الغربية ويستهدف تفكيك الوحدة العربية الجغرافية والحضارية. واعتبر أن وحدة المشرق والمغرب العربيين، وارتباط مصر بسوريا وأفريقيا العربية، باتت مهددة بوجود هذا الكيان، الذي زُرع لفصل الأجزاء الحيوية من الوطن العربي.
من هذا المنطلق، صاغ عبد الناصر رؤية أمنية متقدمة، تربط بين الدفاع عن فلسطين والدفاع عن الذات العربية، معتبرًا أن تصفية القضية الفلسطينية تعني عمليًا تفكيك الوجود العربي وإخراجه من التاريخ، على غرار ما حدث للسكان الأصليين في أمريكا.
وعلى الصعيد العملي، انحاز عبد الناصر بوضوح إلى خيار المقاومة، رافضًا خط التسويات المرحلية. وتشير الوثائق إلى أن أول كتيبة فدائية فلسطينية منظمة أُنشئت في غزة بأمر منه عام 1954، أي قبل العدوان الإسرائيلي الشهير على غزة بسنة كاملة. وقد تولّى الضابط مصطفى حافظ آنذاك مسؤولية تدريب وتسليح المجموعات الفدائية، قبل أن يُغتال لاحقًا على يد الاحتلال.
لاحقًا، مع صعود حركات المقاومة مثل «فتح»، أسهم عبد الناصر بدوره المحوري في نقل قيادة منظمة التحرير إلى ياسر عرفات ورفاقه، واضعًا إمكانات مصر العسكرية واللوجستية في خدمتهم، ورافعًا من مكانة المنظمة إقليميًا ودوليًا. ومن أبرز محطاته في هذا المسار، تقديمه عرفات للقادة السوفييت عام 1968، ما شكل انطلاقة جديدة للعلاقات الدولية للمنظمة، ورسّخ حضورها في حركة التحرر العالمية.
كما تدخل عبد الناصر مرتين لحماية المقاومة من محاولات تصفيتها: أولًا عبر اتفاق القاهرة عام 1969 الذي نظم الوجود الفلسطيني في لبنان، وثانيًا عبر وساطته في وقف مذابح «أيلول الأسود» بالأردن عام 1970، وهي المبادرة التي أنهكته صحيًا، وكانت آخر ما قام به قبل رحيله في 28 سبتمبر.
فلقد كانت فلسطين حاضرًة في وعي الضباط الأحرار منذ ما قبل الثورة، إذ شكلت نكبة 1948 جرحًا غائرًا دفعهم إلى التفكير بإنقاذ مصر والأمة من التبعية والهوان. وقد عبّر عبد الناصر عن ذلك بوضوح في كتابه «فلسفة الثورة»، حيث تحدث عن فلسطين كمعركة مصيرية تتقاطع مع مصير الأمة، وتنعكس على الداخل المصري نفسه. ففي خنادق الفالوجة المحاصرة، تشكلت لديه قناعة بأن ما يحدث في فلسطين قد يتكرر في أي بلد عربي إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه.
ومن هنا، جسّدت ثورة يوليو لحظة تحوّل كبرى، ليس في مصر وحدها، بل على امتداد الوطن العربي والعالم الثالث، حيث امتدت تأثيراتها إلى أمريكا الجنوبية وأفريقيا وآسيا. وقد قاد الضباط الأحرار، انطلاقًا من خلفيتهم الوطنية وتجربتهم في فلسطين، مشروعًا تحرريًا قوميًا استهدف كسر التبعية، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتوحيد الصفوف العربية حول هدف التحرير.
وفي الختام، فإن ذكرى ثورة يوليو ليست فقط مناسبة للاحتفال بحدث وطني مصري، بل فرصة لاستعادة المشروع العربي الجامع الذي وضع القضية الفلسطينية في القلب من معاركه، وذكّر بأن الحرية لا تتجزأ، وأن فلسطين ستبقى البوصلة مهما طال الزمن. كذلك، فلا يسعنا في هذه الذكرى العزيزة سوى أن نوجّه أسمى آيات التهاني والتبريكات إلى الشعب المصري الشقيق، بمناسبة العيد الوطني لجمهورية مصر العربية وذكرى ثورة 23 يوليو المجيدة. تلك الثورة التي لم تكن مجرد تحول سياسي داخل مصر، بل كانت نقطة انطلاق لمسيرة تحرر عربي ألهمت الشعوب وأرست دعائم الكرامة والاستقلال. فكل عام ومصر بخير، وكل عام وشعبها الوفي يواصل البناء والعطاء، ويحمي الثوابت ويدافع عن قضايا الأمة في كل زمان ومكان.
المحامي أسامة العرب