بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
عام 1978 كانت منظّمة التحرير الفلسطينية تُصنَّف أميركيّاً منظّمة إرهابيّة عندما أعطى الرئيس الأميركي في ذلك الوقت جيمي كارتر الإذن للمنظّمة بافتتاح “مكتب إعلاميّ” في واشنطن. يومها نصّ الإذن بافتتاح المكتب على أن لا يزيد عدد الأعضاء الفلسطينيّين العاملين فيه على ثلاثة أعضاء فقط.
أراد الرئيس رونالد ريغان إقفال المكتب. وجد فيه تحدّياً لمعتقداته الدينية “المسيحيّة الصهيونية”. بعد ذلك وجد جورج بوش الابن في تأييد ياسر عرفات للرئيس العراقيّ الراحل صدّام حسين في غزو الكويت تحدّياً غير مقبول. مع ذلك استمرّ المكتب على قاعدة أنّه “القشّة الفلسطينيّة” في الملفّ الأميركي حول الشرق الأوسط.
لكن في العاشر من أيلول 2018 قرّرت الولايات المتّحدة تجاوز ذلك كلّه وإغلاق المكتب الفلسطيني بحجّة أنّ منظّمة التحرير لا تتعاون بما فيه الكفاية مع الإدارة الأميركيّة. يومها زار السفير الفلسطيني حسام زملط البيت الأبيض أربع مرّات في محاولة منه لوقف العمل بالقرار، واجتمع ثلاث مرّات بالمبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط جيسون غرينلاند، لكن دون جدوى.
في رئاسته الأولى طرح الرئيس الأميركي دونالد ترامب أفكاراً مشوّشة عن سياسته في الشرق الأوسط. لكنّ عدم تجاوب منظّمة التحرير الفلسطينية معه حمله على إعلان الحرب عليها.
في الواقع ما كان للمنظّمة أن تتجاوب مع مبادرة أميركيّة لم تكتفِ بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، بل ذهبت إلى حدّ إعلان الاعتراف بالقدس المحتلّة عاصمةً لإسرائيل.
قطع المساعدات الماليّة
قطع الرئيس ترامب المساعدة الماليّة التي كانت تقدّمها الولايات المتّحدة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة. أوقف الآن المساهمة الماليّة الأميركيّة في منظّمة الأونروا لغوث وإسعاف المهاجرين الفلسطينيّين، وجمّد المساعدة المقرّرة لبناء مستشفيات فلسطينيّة في شرقيّ القدس وقدرها 25 مليون دولار.
بدلاً من ذلك قرّر دعم حركة الاستيطان اليهوديّ في الضفّة الغربيّة سياسيّاً وماليّاً، وعيّن سفيراً له في تل أبيب من قادة الحركة الصهيونية الأميركية، لا يزال مستمرّاً في منصبه حتّى اليوم.
تلاشى نتيجة ذلك اتّفاق أوسلو الذي أُبرم عام 1991 بين السلطة الفلسطينيّة وإسرائيل. ذلك أنّه بعد اغتيال إسحق رابين رئيس الحكومة الإسرائيليّة التي أقرّت اتّفاق أوسلو، لم يعُد يجرؤ مسؤول إسرائيليّ على الدفاع عن الاتّفاق. سحقته عجلات إدارة الرئيس الأميركي ترامب. توّجت السحقَ المجزرةُ التي ارتكبتها إسرائيل في غزّة بدعم عسكريّ وسياسيّ أميركي.
عام 2015 لجأت السلطة الفلسطينية إلى محكمة الجنايات الدوليّة ودعتها إلى التحقيق في جرائم ضدّ الإنسانيّة ارتكبتها القوّات الإسرائيليّة في الضفّة الغربية وغزّة. أثارت تلك المبادرة غضب الإدارة الأميركيّة فكان الردّ الانتقامي سياسيّاً وعسكريّاً وماليّاً.
السّلاح أميركيّ
دمّرت إسرائيل غزّة بسلاح أميركيّ وبغطاء سياسيّ أميركيّ. وتتوسّع في الضفّة الغربيّة، وخاصّة في القدس بدعم سياسيّ أميركيّ أيضاً فيما تتوافق دول العالم، بما فيها دول أوروبيّة، على المبادرة السعودية الفرنسية للاعتراف بالحقّ الفلسطينيّ في دولة مستقلّة. وحدها الولايات المتّحدة استخدمت حقّ النقض (الفيتو) ضدّ قرار الاعتراف بهذا الحقّ في مجلس الأمن الدولي.
لا يزال المكتب الفلسطيني في منطقة جورج تاون في واشنطن مغلقاً. لا تزال أموال المساعدات الأميركيّة للسلطة الفلسطينيّة مجمّدة أو مصادَرة. حتّى حصّة السلطة من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل من أبناء الضفّة الغربية لا تزال مجمّدة بموافقة أميركيّة يلتقي عليها الحزبان الأميركيّان الديمقراطيّ برئاسة جو بايدن والجمهوريّ برئاسة دونالد ترامب.
خرجت الدول الأوروبيّة من تحت المظلّة الأميركيّة وقرّرت الاعتراف بالدولة الفلسطينية. قادت إسبانيا هذه الحركة السياسيّة – الإنسانيّة. حتّى بريطانيا التي تربطها بالولايات المتّحدة علاقات إنغلوسكسونيّة مشتركة لم تستطِع أن تشذّ عن هذا الركب الذي يضمّ ألمانيا وفرنسا أيضاً.
ساعدت الجرائم ضدّ الإنسانيّة التي ارتكبتها إسرائيل في غزّة على توسيع قاعدة التعاطف الإنساني مع القضيّة الفلسطينية الذي أعاد إلى الأذهان التوظيف السياسيّ للمأساة التي تعرّض لها اليهود على أيدي الحركة النازيّة خلال الحرب العالميّة الثانية.
يشهد العالم اليوم جرائم صهيونيّة جماعيّة في غزّة (والضفّة الغربيّة) تتجاوز تلك التي ارتكبها النازيّون.
إنّ ما حدث ويحدث في غزّة يثبت عمليّاً أنّ الوحشيّة النازيّة ثقافة إجراميّة لا تنحصر بشعب من دون آخر.
محمد السماك