بقلم محمد السماك
«أساس ميديا»
يشكّل التسلّح الحافز الأوّل في مسيرة التقدّم العلمي. تبدأ التقنيّات الجديدة عسكريّة ولأهداف عسكريّة، ومع الوقت، وبعد استنفاد أغراضها، تتحوّل إلى الصناعات المدنيّة.
أوّل مرّة استُخدمت فيها طائرات عسكريّة نفّاثة كانت في الحرب الأميركية في كوريا (بعد الحرب العالميّة الثانية مباشرة). أوّل مرّة استُخدمت فيها المسيّرات كانت في الحرب الإسرائيلية على مصر في عام 1973. دمّرت تلك المسيّرات محطّات الرادار المصريّة، فسهُل أمام الطائرات الحربية الإسرائيلية شنّ هجماتها المدمّرة مطمئنّةً إلى عدم معرفة المضادّات الأرضيّة المصريّة بها.
أوّل مرّة استُخدم فيها نظام الـ”جي.بي.إس” (G.P.S) لمعرفة المواقع الجغرافيّة للميدان القتاليّ، كانت أثناء حرب الخليج الأولى (1991). أوّل مرّة جرت فيها حرب إلكترونيّة كانت بين روسيا وأوكرانيا، ولا تزال مستمرّة.
عام 1947 تمكّنت مجموعة من البحّاثة تعمل في مختبرات شركة أميركيّة للاتّصالات من اكتشاف “الترانزيستر”. أسّس هذا الاكتشاف لعلم الإلكترونيّات. ازدهرت الصناعة القائمة على هذا الاكتشاف العلميّ الجديد في كاليفورنيا بالولايات المتّحدة الأميركيّة، ومنها انطلقت إلى آسيا حيث اليد العاملة الرخيصة.
عام 1965 أنشأ رجل أعمال أميركيّ يُدعى غولدن مور مصنعاً لإنتاج وتجميع ترانزيستورات أصغر حجماً وأكثر عدداً. ولدت لوائح الذاكرة والمعلومات (chips) التي تقوم عليها اليوم الصناعات الإلكترونيّة في مجالاتها العلميّة والعسكريّة كافّة.
سلاح التّشويش
أوّل مرّة استُخدم فيها سلاح التشويش الإلكترونيّ لتضليل العدوّ كانت في عام 2010، عندما تمكّنت إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتّحدة من تضليل وتشويه جهاز الاستطلاع الإلكترونيّ الإيراني الذي يتعلّق بجغرافية ومواقع وعمل مفاعلات إيران النوويّة. وهو ما قامت به روسيا أيضاً قبل الحرب على أوكرانيا في 2015 و2016.
كان الهدف الروسيّ فرض السيطرة المطلقة على أجواء أوكرانيا ثمّ وضع بنيتها التحتيّة تحت رحمة القصف الروسيّ المباشر. إلّا أنّ المساعدات العلميّة العسكريّة الأوروبية والأميركية عطّلت إلى حدّ بعيد هذا الهدف، الأمر الذي أدّى إلى إطالة الحرب الروسيّة – الأوكرانيّة.
ذلك أنّه عندما قامت روسيا بحربها الأولى في عام 2014 (استرجاع شبه جزيرة القرم) اعتمدت على “تعمية” أجهزة الرادار الأوكرانيّة، الأمر الذي تنبّهت له أوكرانيا وحلفاؤها عندما انفجرت الحرب على نطاق واسع بين موسكو وكييف في شرق أوكرانيا. أدّى هذا التنبّه إلى اتّخاذ إجراءات إلكترونيّة معاكسة عطّلت حسم الحرب.
القبّة الذّهبيّة
يقف العالم اليوم على أبواب مرحلة جديدة من مراحل استخدام العلوم في الحروب.
تعتمد أوكرانيا في تجميع معلوماتها العسكريّة على تعاون مشترك بين أنظمة المراقبة الإلكترونيّة التابعة لدول من حلف شمال الأطلسيّ وشركات ومؤسّسات أميركية وأوروبية خاصّة. أمّا روسيا فإنّ المساعدة الإلكترونيّة الوحيدة من خارج منظومة أجهزتها الخاصّة تأتي من الصين (الدولة الوحيدة التي وصلت إلى الجانب الخلفيّ للقمر).
يطرح الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب اليوم مشروع “القبّة الذهبيّة”. وهو مشروع عسكريّ لحماية الأجواء الأميركيّة من أيّ هجوم مباغت (من روسيا أو الصين أو كوريا الشماليّة). يعتمد هذا النظام العسكريّ على الأقمار الاصطناعية، وخاصّة تلك التي تدور حول الكرة الأرضيّة. وهو ما لا يعني اعتبار هذه الأقمار معدّات عسكرية فقط، بل ويعني، وهنا مكمن الخطورة الكبرى، تحويل هذه الأقمار إلى أهداف عسكريّة.
إنّ نظام الاتّصالات العالميّ قائم على هذه الأقمار، فأيّ مصير للعلاقات الإنسانيّة إذا ما تعرّضت للتدمير بهدف تعمية العدوّ؟
عندما بدأت روسيا عمليّتها العسكريّة في أوكرانيا كانت تعتقد أنّ هذه العمليّة ستحقّق أهدافها خلال أسابيع معدودة. مرّت الآن سنوات والحرب لا تزال مشتعلة. يعود السبب في ذلك إلى الدور الذي قامت وتقوم به أجهزة الرصد والمراقبة الإلكترونيّة الحديثة في هذه الحرب، سواء لجهة التشويش على العدوّ، أو الالتفاف على مخطّطاته بعد اكتشافها إلكترونيّاً.
يشدّ أمران على عنق الحياة الإنسانيّة:
1- التطوّر في إنتاج القنابل النوويّة والهيدروجينيّة الفائقة القوّة التدميريّة.
2- التطوّر في إنتاج أجهزة المراقبة الإلكترونيّة الفائقة الدقّة في التضليل والتشويش.
فيما تملك ثلاث دول كبرى فقط هي الولايات المتّحدة والاتّحاد الروسيّ والصين إمكانات تدميريّة كافية لقتل كلّ إنسان على سطح الأرض تسع مرّات على الأقلّ، يبدو من السذاجة الدعوة إلى عمل دوليّ مشترك من أجل مكافحة ظاهرة الاحتباس الحراريّ.
محمد السماك