“الفرجة” المطلوبة في اشتباك إسرائيل والحوثيّين

بقلم محمد قواص

«أساس ميديا»

تمثّل “جبهة اليمن” نطاقاً لم يكن محسوباً على رادارات المشهد التقليدي العسكريّ للأمن الإسرائيليّ. شيّدت إسرائيل عقيدتها العسكرية في العقود الأخيرة على الأخطار الواردة من الجنوب الغزّيّ في مواجهة الفصائل المسلّحة هناك، وعلى جبهة الشمال ضدّ “الحزب” في لبنان، وعرّفت هذه الأخطار كأعراض جانبيّة خطيرة للحالة الاستراتيجيّة الكبرى التي تمثّلها إيران في المنطقة. غير أنّ إسرائيل تكتشف كما اكتشفت الولايات المتّحدة قبلها أنّ حالة “الحوثيّين” تمثّل نموذجاً لم يكن في الحسبان.

في الحسابات العسكريّة لا تتجاوز الأخطار الواردة من “الجبهة اليمنيّة” مستوى “الإزعاج” في حسابات الأمن والدفاع الإسرائيليَّين. حُرّكت الجماعة، وفق حسابات طهران و”محورها”، كما حُرّك “الحزب” في لبنان لـ”إسناد” غزّة. أطلق الحوثيون بعد شهر من “7 أكتوبر/تشرين الأوّل” الشهير من عام 2023 أكثر من 200 صاروخ وطائرة مسيّرة باتّجاه إسرائيل. وباستثناء مقتل شخص بطائرة مسيّرة ضربت شقّة في تل أبيب في 19 تمّوز 2024، فإنّ الضربات لم تحقّق أيّ نتائج مؤثّرة.

المشكلة في البرّ

في 6 أيّار الماضي دخل اتّفاق لوقف إطلاق النار بين الولايات المتّحدة والحوثيّين حيّز التنفيذ. دُبّر الاتّفاق بوساطة سلطنة عُمان بعد حملة ضربات أميركية واسعة ومركّزة تجاوز عددها ألف غارة شُنّت ضدّ مواقع الجماعة خلال آذار- أيار من العام الجاري. نصّ الاتّفاق على وقف الحوثيين ضرب السفن العابرة في البحر الأحمر، وهو ما اعتبره الرئيس الأميركي دونالد ترامب نصراً مبيناً. فيما أعلنت الجماعة أنّ الاتّفاق لا يشمل إسرائيل سفناً في البحر وأهدافاً في البرّ.

تعاملت إدارة ترامب مع ملفّ الحوثيّين كحالة أمنيّة كما تتعامل مع عصابات القراصنة والجماعات الخارجة عن القانون. وبدا واضحاً أنّ بلدان المنطقة، بسبب وعيها التامّ للسوابق الدوليّة، رفضت جميعها منذ إعلان إدارة الرئيس السابق جو بايدن تشكيل تحالف “حارس الازدهار” في 19 كانون الثاني 2023، الانخراط في أيّ تحالف، أو حتّى التعاون في ورش عسكرية لها حساباتها الظرفية، خصوصاً تلك التي يُشتمّ من أهدافها حماية إسرائيل.

ليست مشكلة اليمن في بحره وما يتشكّل هناك من أخطار تهدّد الملاحة الدولية وتضغط على قناة السويس وتسبّب أضراراً مباشرة للاقتصاد المصريّ. مشكلة اليمن هي في برّه بسبب صراع سياسي عسكري أدّى إلى هذا التمزّق الداخلي على يد ميليشيا مسلّحة متمرّدة على الحكومة الشرعية. والصراع اليمنيّ قديم له أدوات تمّ تسعيرها في العقود الأخيرة بدعم ماليّ وسياسي وأيديولوجيّ وعسكري من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران.

تُحرّك إيران بيدقها في اليمن كما كانت وما تزال تحرّكه في دول “الهلال” الشهير. ويأخذ الصراع طابع تضارب مصالح بين إيران وإسرائيل على حساب دول المنطقة ووحدتها وأمنها واستقرارها. ولئن يُتّخذ من غزّة وفلسطين عناوين لفتك الدويلات بدُولها، فإنّ الأمر لا يعدو كونه ورقة من أوراق طهران على موائد التسويات المتوخّاة مع العالم. ولئن تواجه إيران تصعيداً وانسداداً هذه الأيّام بسبب تفعيل الترويكا الأوروبية لـ “آليّة الزناد” التي تعيد تفعيل عقوبات العالم كلّها، فإنّ ورقة الحوثيّين تتقدّم في اليمن كما يتقدّم خطاب “الحزب” التصعيديّ المهدِّد بحرب أهليّة في لبنان.

اشتباك إسرائيليّ – إيرانيّ

تدفع الولايات المتّحدة، والعالم النادب على أمن البحر الأحمر، مسؤوليّة المواقف الخبيثة حيال الأزمة اليمنيّة. يتذكّر اليمنيّون أنّهم حين كانوا قاب قوسين من تحقيق نصر عسكري على الحوثيين، لا سيما حين جرى حصار ميناء الحديدة الاستراتيجي وتقدّمت القوّات الشرعية اليمنية لاستعادته، تدخّلت لندن وواشنطن وانطلقت ضغوط متعدّدة المصادر والمستويات تحذّر من الخطوة وتضغط حتّى إيقافها. بدا لليمنيّين، ومعهم دول المنطقة المعنيّة مباشرة، أنّ هناك إرادة دوليّة للحفاظ على الصراع في اليمن وإبقائه ملفّاً مفتوحاً حتّى يحين إغلاقه، وفق حسابات المصالح الكبرى.

أوقفت واشنطن حملتها ضدّ الحوثيّين، غير عابئة بـ”قضيّة” اليمن وأبعادها اليمنيذة وارتباطاتها بأجندات إيران. وما تفعله إسرائيل ضدّ الحوثيّين هو اشتباك إسرائيلي-إيراني يأخذ طابعاً ثنائيّاً يندرج ضمن العمليّات التقنيّة التي تنفّذها إسرائيل وتلقى غضّ طرف وتفهّم واشنطن وكلّ المجموعة الدولية، بما في ذلك للمفارقة، روسيا والصين. حتّى إنّ القيادة الإسرائيلية بدت غير معنيّة بمضمون ضرباتها الأخيرة ضدّ الأهداف الحوثيّة ومدى نجاعتها، بل بالطابع المشهديّ لتلك الضربات.

درجت إسرائيل منذ بدء الضربات الحوثيّة ضدّها على الردّ من دون مقدّمات، تاركةً لمشهد استهداف خزّانات الوقود في الحديدة وغيرها أن ينتج فُرجةً جاذبةً للإعلام الدولي. لكنّها في الأسبوع الماضي بدأت استخدام مناورات إعلامية تعلن مسبقاً خطط استهداف، وتطوّر بنك أهداف، واجتماعات مغلقة، والكشف عن قرار بالضربات قبل شنّها. لكنّ الأفدح من ذلك أنّها حين أعلنت استهداف اجتماع لقادة حوثيّين، الخميس، صبّت جرعات درامية من خلال عرض لصور وزير الدفاع ورئيس الأركان في غرفة العمليّات قيل إنّهما كانا على تواصل عبر “الخطّ الأحمر” مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

لا تملك إسرائيل “داتا” معلومات ومستوى اختراقات في اليمن بالمستوى الذي امتلكته داخل إيران وداخل حزبها في لبنان. ولا يستحقّ الأمر قيام إسرائيل بتنفيذ عمليّة عسكرية متكاملة، لأنّه لا منظومة دفاع جوّيّ تهدّد تلك الدراما المشهديّة التي أرادتها. بات اليمن مناسبة للفرجة في حروب إسرائيل المتعدّدة الجبهات. تحتاج إيران إلى مسيّرة أو صاروخ واحد تطلقه الجماعة حتّى لو أُسقط أو سقط. وتحتاج إسرائيل إلى واقعة جديدة توفّرها أدوات إيران لعرض مزيد من عضلاتها “المباركة” من العالم في المنطقة جمعاء.

محمد قواص