بين تشرشل وأوباما

بقلم محمد السماك

عندما دخل الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما لأول مرة المكتبَ الرئاسي في البيت الأبيض، وجدَ فيه تمثالاً رأسياً لرئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستون تشرشل. وقبل أن يجلس على كرسيه، طلبَ مِن مساعديه بغضب شديد إخراجَ التمثال من المكتب، ومِن البيت الأبيض ككل، وقال عبارتَه المقتضبة: «هذا ليس مكانه».

وكانت رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر قد قدَّمت التمثالَ هديةً للرئيس الأميركي جورج بوش الذي لطالما أبدى إعجابه بتشرشل وبدهائه السياسي. وفي القانون الأميركي فإن الهدايا الرئاسية تبقى ملكاً للدولة. يعود انزعاج أوباما من التمثال إلى دور تشرشل خلال فترة الاستعمار. كانت بريطانيا تحتلّ أجزاءً من شرق أفريقيا، وكان الأفارقة يقومون بحركات تحرّر تُجهَض بالقوة العسكرية. وكانت كينيا واحدة من الدول التي تمرّدت على الاستعمار البريطاني في خمسينيات القرن الماضي بقيادة حركة التحرير الوطنية «الماوماو».

قاتلت القواتُ البريطانية تلك الحركةَ واعتقلت قياداتها وأنزلت بهم سوء العذاب. وكان أحد أولئك القادة جدّ باراك أوباما، وقد اعتُقل وسُجن وعُذّب، ويقال، إنه مات في الأسر. وكان القائد البريطاني المسؤول عن ذلك ونستون تشرشل شخصياً. بعد استقلال كينيا، اعترفت بريطانيا بمسؤوليتها عن اضطهاد وتعذيب قادة حركة «الماوماو»، وقدّمت تعويضات مالية لعائلات الضحايا (5228 عائلة) بلغت قيمة التعويض أربعة آلاف دولار لكل عائلة.. بمن فيها عائلة أوباما. كان الحكم بالتعويض آخر الأحكام التي أصدرتها المحاكم البريطانية حول هذا الموضوع. فقد تقرّر عدم فتح ملف طلبات التعويض حول أحداث وقضايا وقعت قبل عام 1954، ولو أن باب المطالبة بالتعويض بقي مفتوحاً فإن قيمة التعويضات التي تستحقها أفريقيا تقدّر بحوالي 777 تريليون دولار، أي ما يعادل عشر مرات حجم الدخل العالمي! ويُقدّر عدد العائلات البريطانية، المستمرة حتى اليوم، والتي عملت في تجارة العبيد، بنحو ثلاثة آلاف عائلة. وكان مرفأ مدينة ليفربول مخصصاً للعمل على تجميع العبيد المستجلبين من أفريقيا، ومن ثم شحنهم بحراً إلى الأميركيتين الشمالية والجنوبية والكاريبي (حسب الأسعار). وبالطبع لم تكن بريطانيا وحدها متهمةً بتلك التجارة. كانت تنافسها في ذلك كلٌّ مِن إسبانيا وهولندا وفرنسا. إلا أن بريطانيا هي التي كانت سباقة إلى إصدار قانون تحريم وتجريم التجارة بالبشر. وقد لعبت الكنيسة الأنجليكانية دوراً أساسياً في إصدار قانون التحريم. خلال الاحتلال البريطاني لكينيا كانت قد مرّت عقود عديدة على صدور قانون تحريم التجارة بالأفارقة، ولذا لم تكن مهمة ونستون تشرشل في ذلك الوقت «الاستعباد» بل كانت «الاستعمار». لم تجد حركة «الماوماو» فرقاً بين الأمرين، فقامت بثورة تحرير وطني، مما أدى إلى قيام الحركة بأعمال عنف ضد الاحتلال البريطاني.. ومن ثم إلى قيام تشرشل بقمع تلك الحركة واعتقال قياداتها. وكان من بينهم جدّ الرئيس الأميركي أوباما. وفي عام 2015 ترأس أوباما حفل تأبين قسيس أسود وثمانية من أفراد كنيسته قتلهم متعصب أبيض كاره للسود. وفي حفل التأبين الذي أُقيم في كنيسة كارولينا الجنوبية، تحدث أوباما عن نعمة الغفران، وقال في خطابه الوعظي: «إن الغفران والتسامح يتغلّبان على الكراهية والغضب».

وردّد ترنيمة دينية حول التسامح، شاركه فيها المصلّون من الأفارقة السود. فهل دُعاء الغفران شمل رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل؟ الجواب يحدّده الموقع الحالي لتمثال تشرشل في محفوظات البيت الأبيض!

محمد السماك