بقلم موفق حرب
«أساس ميديا»
في منطقة غالباً ما تُختزل بمفردات الأمن والنفط، شكّلت جولة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرة فيها تحوّلاً لافتاً في خطابه وسلوكه. فبعيداً عن النبرة الصداميّة التي اتّسمت بها مواقفه السابقة تجاه العرب والإسلام، بدا ترامب أكثر هدوءاً، أكثر إنصاتاً وتواضعاً، وأقرب إلى فهم أعمق لمنطقة عريقة بحضارتها، غنيّة بتنوّعها، ومعقّدة بتركيبتها السياسية والثقافية.
الزيارة التي شملت لقاءات رفيعة المستوى مع قادة الدول وجولات شعبية في دول الخليج، بدت وكأنّها توسّع آفاق الرئيس الأميركي وتدفعه إلى إعادة النظر في قوالب جاهزة لطالما حكمت نظرته للمنطقة. وكانت اللحظة الرمزيّة الأبرز في زيارته لمسجد الشيخ زايد الكبير في أبو ظبي حيث ظهر حافي القدمين تحت قبب مزخرفة وآيات قرآنية مطرّزة بالذهب. لم يكن هذا المشهد لرجل يتحدّى التقاليد، بل لرئيس بدا كضيف يشعر بعمق اللحظة ووقار المكان.
لكنّ اللافت أكثر كان تنامي انجذاب ترامب العلني إلى دول الخليج نفسها، تلك الدول التي تمزج بين الحداثة والبُنى التحتية المتطوّرة من جهة، والهويّة الثقافية الراسخة من جهة أخرى. في ناطحات سحاب الرياض وأبو ظبي والدوحة وفي مناخات الأمان والكفاية والانفتاح على الاستثمار، رأى ترامب انعكاساً لرؤيته عن “عظمة أميركا” التي يريد استعادتها: السيادة، الازدهار والاستقرار تحت قيادة قويّة لا تعتذر عن مصالحها.
رأى ترامب في قادة الخليج شركاء يعرفون لغة الصفقات ويطمحون لصياغة التاريخ بطريقتهم. ولم يتجلَّ إعجابه هذا في لغة الخطاب فقط، بل أيضاً في دفء المواقف الشخصية والاحترام المتبادل والانفتاح على النموذج الخليجي في الإدارة والتنمية. بدا وكأنّه يعثر في الخليج على ما يفتقده في الداخل الأميركي: إنجازات ملموسة وهويّة واثقة وقيادة لا تتردّد.
الابتعاد عن المقاربات التّبسيطيّة
إذا كانت هذه الجولة قد فتحت باباً لتغيّر شخصي، فمن غير المستبعد أن تنعكس تبعاتها على كيفية تعامل ترامب مع قضايا المنطقة في ما بقي من ولايته. ففهمه المتزايد للديناميّات الثقافية والدينية قد يدفعه إلى الابتعاد عن المقاربات التبسيطية التي وسمت الكثير من سياساته السابقة. قد نرى توجّهاً أكثر حذراً في ملفّات حسّاسة مثل القضيّة الفلسطينية، أو مقاربة مختلفة للعلاقات مع إيران، تراعي الهواجس الخليجية من دون أن تقتصر على منطق العقوبات والمواجهة.
من جهة أخرى، قد تُترجم علاقته المتنامية مع حكومات الخليج إلى تعاون اقتصادي أكبر، وصفقات تجارية وعسكرية جديدة، وربّما إلى دور أكثر تكاملاً في جهود إحلال الاستقرار في المنطقة. وقد ينعكس انبهاره بنماذج الحوكمة الخليجية على خطاباته الداخلية، إ ذ قد يستخدمها مثالاً على طريقة تحقيق الدول نموّاً سريعاً من دون التنازل عن أمنها أو هويّتها.ترامب، الذي لطالما قدّم نفسه رجل صفقات قبل أن يكون رجل سياسة، ربّما وجد في الخليج ما يوازي طموحه الشخصي والسياسي، من حيث هو منطقة غنيّة بالفرص، بل ونموذج لرؤية قياديّة تدمج بين الحسم والمرونة، وبين الأصالة والمعاصرة. وإذا ما ترسّخت هذه القناعة في أروقة اتّخاذ القرار في واشنطن، فقد نشهد في السنوات المقبلة مقاربة أميركية مختلفة تماماً للمنطقة: أكثر احتراماً للتقاليد، وأكثر تركيزاً على الشراكات الاستراتيجيّة الطويلة الأمد.
القوّة في التّواضع
قد يعتبر البعض أنّ هذه المواقف لا تتجاوز الإطار الشكليّ، لكن في عالم الدبلوماسية كثيراً ما تسبق الرمزيّة السياسات. فحين يخلع ترامب حذاءه في مسجد، ويجلس بين محاوريه ليستمع لا ليُملي، ولا يرى في مدن الخليج أسواقاً استراتيجيةً وحسب، بل وأمثلة قابلة للتكرار، فإنه يلمّح إلى تحوّل حقيقي مفاده أنّ القوّة لا تكون بالهيمنة فقط، بل أيضاً بالتواضع والانفتاح.
لم تفتح رحلة ترامب إلى الشرق الأوسط أبواب السياسة فحسب، بل ربّما فتحت أيضاً آفاقاً داخليّة في شخصه. وفي زمن تتنازع فيه العالمَ الشكوكُ والانقسامات، فإنّ هذا التحوّل، مهما كان جزئيّاً، ليس بالأمر العابر.
موفق حرب