المحامي أسامة العرب
لطالما حيّرت العلاقة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتابعين والمحللين على حدٍّ سواء، حيث شذّت عن قواعد الاشتباك التقليدي بين البيت الأبيض والكرملين. فقد وُصفت في أحيان كثيرة بـ«الأخوية» أو «الودية المفرطة»، لا سيما خلال ولاية ترامب الأولى بين عامي 2017 و2021، حين أبدى الأخير استعدادًا فريدًا للتقارب مع بوتين، متجاهلًا المؤسسات الأمنية الأميركية، وحتى أصوات الكونغرس ووكالات الاستخبارات التي اتهمت روسيا مرارًا بالتدخل في الانتخابات والتجسس السيبراني.
غير أن المشهد بدأ يتغيّر تدريجياً في الأشهر الأخيرة، وتحديدًا منذ إعلان ترامب ترشحه مجددًا للرئاسة، وصولًا إلى فوزه في انتخابات نوفمبر 2024. فمنذ الأيام الأولى لولايته الثانية، شهد الخطاب السياسي لترامب تحولًا ملحوظًا تجاه بوتين، بدا فيه أقل إعجابًا بشخصيته، وأكثر ميلاً إلى استخدام «لغة التهديدات الاقتصادية والعسكرية» بدل عبارات الإطراء والتفاهم. وهذا ما يطرح السؤال الجوهري: هل انتهت تلك العلاقة الفريدة التي جمعت الرجلين؟ أم أننا أمام إعادة صياغة مصلحية لها بحدود جيوسياسية جديدة؟
للإجابة عن هذه التساؤلات، لا بدّ من العودة إلى ولاية ترامب الأولى، حيث لم يُخفِ الأخير إعجابه بفلاديمير بوتين، وذهب إلى حد وصفه بأنه «رجل قوي وذكي»، مشيدًا بأسلوبه في إدارة الدولة، وحتى بما أسماه «حزمًا وطنيًا» في الدفاع عن مصالح روسيا. تلك العلاقة كانت تُرى من منظور استثنائي: رئيس أميركي يرفض تحميل بوتين مسؤولية واضحة عن ملفات مثل ضمّ القرم، أو التدخل الروسي في سوريا، أو حتى قضية المعارض أليكسي نافالني، ويصر على أن «التفاهم مع روسيا هو أمر جيد، وليس دليل ضعف».
لكن الحرب في أوكرانيا، التي اندلعت في فبراير 2022 وامتدت لسنوات، غيّرت الحسابات جذريًا. فترامب، الذي كان دائم التأكيد على قدرته على إنهاء الحرب «خلال 24 ساعة»، دخل البيت الأبيض مرة أخرى محمّلًا بتوقعات عالية، إلا أن لقاءاته غير المباشرة مع بوتين، والاتصالات الخلفية، لم تُثمر عن أيّ تقدم يُذكر؛ بل على العكس، بدأ ترامب يعبّر عن خيبة أمله علنًا، قائلاً: «كنت أظنّ أننا على وشك التوصل إلى اتفاق أربع مرات، لكن بوتين استمر في القصف». هذه العبارة ليست مجرد تذمّر شخصي، بل تعبّر عن إدراك متأخّر بأن بوتين لا يفاوض بشروط ترامب، ولا يُقاس بعقلية «الصفقة التجارية» التي يتقنها الرئيس الأميركي.
كذلك، ففي تطور غير مسبوق، أعلن ترامب في 14 يوليو 2025 عن نيته فرض «رسوم جمركية مرتفعة جدًا» على روسيا في حال لم تتوقف الحرب خلال 50 يومًا. وذهب أبعد من ذلك، حين قال إن الولايات المتحدة ستبدأ بإرسال أسلحة متطورة إلى أوكرانيا عبر حلف شمال الأطلسي، مؤكدًا أن دول الحلف هي التي ستدفع ثمنها. لم يكن هذا مجرد تحول تكتيكي، بل تحوّل في المنهجية: من محاولة استرضاء بوتين إلى محاصرته بالعقوبات والضغوط الاقتصادية والعسكرية.
هذا الخطاب الجديد يمثّل قطيعة شبه تامة مع توجهات ترامب السابقة، لا سيما أنه خلال سنته الأولى في الحكم، لطالما انتقد العقوبات على روسيا، واعتبرها غير فعّالة ومضرة بالمصالح الأميركية. ولكنّ ما غاب عن حسابات ترامب، وربما لا يزال يغيب جزئياً، هو أن بوتين لا يرى الحرب في أوكرانيا كساحة تفاوض عادية، بل كصراع وجودي يُعيد من خلاله ترسيم مكانة روسيا في النظام العالمي. فالرئيس الروسي يعتبر أن توسّع الناتو شرقًا، وانجذاب أوكرانيا إلى الغرب، يشكّل تهديدًا استراتيجيًا لا يمكن التغاضي عنه، وأن الحرب هي استكمال لمسار بدأ منذ انهيار الاتحاد السوفياتي.
ومن هذا المنطلق، فإن بوتين ليس في وارد القبول بـ«صفقة متوازنة» تتيح له الانسحاب مقابل مكاسب شكلية. بل يرى أن الانتصار الكامل – أو على الأقل فرض شروطه بالقوّة – هو السبيل الوحيد لتأمين استقرار روسيا في مواجهة ما يعتبره «هيمنة أطلسية وعداءً تاريخيًا».
من جهة أخرى، يتساءل البعض هل كان ترامب ساذجًا؟ وهنا يرى بعض المحللين أن ترامب تعامل مع بوتين كما يتعامل رجل أعمال مع منافس شرس في السوق: يحاول التقرب منه، ثم يخوّفه بالعقوبات إذا لم يُذعن، وفي النهاية يفاوضه على أساس الربح والخسارة. لكنهم يؤكدون أن هذه العقلية لا تنجح مع زعيم مثل بوتين، الذي لا تُحرّكه الحوافز الاقتصادية فقط، بل التاريخ، والجغرافيا، والانتماء القومي، وأحيانًا أوهام الإمبراطورية.
والأهم أن بوتين ليس شخصية تُغريها «الصداقة» بقدر ما تسعى لتوظيفها. وبدا أن الرئيس الروسي استخدم علاقة ترامب كأداة لكسب الوقت والمواقف، وليس لبناء تحالف شخصي عابر للواقع الجيوسياسي.
ورغم كل هذه التحوّلات، لم يُغلق ترامب الباب نهائيًا أمام بوتين. ففي مقابلة مع الـ«بي بي سي» قال: «لم أنتهِ من بوتين بعد… هناك دائماً مجال للتفاهم». هذا التصريح يعكس واقعية جديدة في خطاب ترامب: فهو يدرك أن بوتين لم يعد صديقًا، لكنه لا يريده عدوًا مباشراً، بل خصماً يمكن التفاهم معه حين تنضج الظروف. وما يلفتنا في هذا الصدد، أن هذه «الواقعية» لا تنبع من تفهّم أعمق لبوتين بقدر ما تنبع من محاولة ترامب لإثبات قدرته على تحقيق نتائج، خصوصًا في وقت يواجه فيه انتقادات داخلية تتهمه بالفشل في احتواء الحرب رغم وعوده الكبرى.
في الختام، إن ما بين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين لم يعد علاقة شخصية «أخوية»، بل تحوّل إلى صراع إرادات بين رئيس أميركي يريد أن يُثبت قدرته على إبرام الصفقات، ورئيس روسي لا يؤمن أصلاً بالصفقات التي لا تعكس موازين القوة. وعليه، فإن العلاقة تمرّ اليوم بمرحلة دقيقة من «التصادم البارد»، حيث لا تزال القنوات الدبلوماسية قائمة، لكن الثقة السياسية تآكلت، وبدأ الطرفان يُعاملان بعضهما كخصمين استراتيجيين، لا كشريكين محتملين. ويبقى السؤال المطروح: هل يدفع هذا التصعيد إلى إعادة تموضع سياسي قد يُثمر عن حلّ؟ أم أن شخصية بوتين الصّلبة، ومقاربة ترامب التفاوضية الجامدة، ستدفعان بالمواجهة نحو مزيد من التعقيد؟ من جهتنا، فبكافة الأحوال، الأرجح أن العلاقة لم تمت، لكنها بالتأكيد لم تعد كما كانت، وقد لا تعود أبدًا.
المحامي أسامة العرب