ترامب يطوي صفحة أوباما: “مُحمَّد” قاطرة الدولة الوطنية في المنطقة

بقلم محمد بركات

«أساس ميديا»

ما يجري في المملكة العربية السعودية هذه الأيّام هو زلزالٌ سياسي يعيد رسم معالم الإقليم، يُتوقّع أن تستمرّ هزّاته الارتدادية لسنوات. فقد أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنّ وليّ العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان هو شريكه الاستراتيجي الأوّل في المنطقة على المدى الطويل، مانحاً إيّاه هامشاً واسعاً من التأثير في ملفّات سوريا ولبنان والخليج، إلى جانب أدوار دوليّة تمتدّ من روسيا إلى أوكرانيا وتركيا والسودان… وبذلك يكون قد طوى مفاعيل “خطاب القاهرة” لسلفه باراك أوباما في 4 حزيران 2009.

 ليس خطاباً عاديّاً هذا الذي ألقاه أقوى الرؤساء الأميركيين منذ عقود. فهو بمنزلة إعلان تحوّل في العقيدة السياسية الأميركية تجاه المنطقة. ما بعده لن يكون كما قبله. وربّما يطوي اليوم مفاعيل خطاب الرئيس الأسبق باراك أوباما في جامعة القاهرة قبل 16 عاماً، في 4 حزيران 2009.

كان خطاب أوباما يركّز على التصالح بين أميركا والإسلام. وفتح الباب أمام “الربيع الإسلامي”، حين قال: “لا يمكن لأيّة دولة ولا ينبغي لأيّة دولة أن تفرض نظاماً للحكم على أيّ دولة أخرى”. وتعهّد بـ”توسيع الشراكة مع المجتمعات الإسلامية”. وأسهب في تفصيل أسباب احترام الخيارات الإسلامية في الحياة… والسلطة.

أمّا خطاب ترامب فجاء تصالحيّاً مع نموذج “الدولة الوطنية” التي رفعت المملكة العربية السعودية رايتها منذ سنوات: دولة غير دينية. حديثة. جامعة. مزدهرة. وهذا ما قاله ترامب: “أثبتت أمم الخليج أنّ مجتمعاتها تتمتّع بالسلام والازدهار الاقتصادي وحرّيّات شخصيّة متوسّعة ومسؤوليّة متزايدة على الساحة الدولية…”. وتحدّث عن “الوصول إلى مستقبل كانت تحلم به الأجيال السابقة”. وتحدّث عن “جهات مارقة كانت تحاول جرّ الشرق الأوسط نحو الفوضى والحرب حين تركت البيت الأبيض (قبل 4 سنوات)”، في إشارة إلى إيران: “استهدفت مدينة الرياض الجميلة وزعزعت الاستقرار”.

المصالح الحضاريّة المشتركة بين أميركا والسّعوديّة

لكلّ هذه الأسباب لم يكن الخطاب اقتصادياً وحسب. حتّى الأبعاد الاقتصادية جاءت انعكاساً لرؤية حضارية جديدة تتشاركها أميركا والسعودية. تُقدّم الأخيرة نموذجها محرّكاً للحداثة في الخليج والعالم العربي. وهو نموذج يقوده الأمير محمّد بن سلمان مع تحديث اجتماعي وديني واقتصادي وثقافي وترفيهي ورياضي.

لم يغب هذا البُعد عن خطاب ترامب، الذي تجوّل بين ملفّات النفط والذكاء الاصطناعي، مروراً بكرة القدم و”الفورمولا وان”، مشيراً إلى النموّ اللافت للاقتصاد غير النفطي في السعوديّة.

تريليونات الدّولارات بين ترامب وبن سلمان

بالأرقام، كان الخطاب تريليونيّاً. ليس تعبيراً عن جشع أميركي أو إغراء سعودي، بل دلالة على عمق الشراكة الاستراتيجية: من الاستثمار في التكنولوجيا، إلى التسلّح، وصولاً إلى الرهانات السياسية الكبرى. لم تعد السعودية “تحظى بالحماية” الأميركية، بل باتت شريكاً كاملاً في رسم سياسات المنطقة.

من هنا، فتح ترامب ملفّات كبرى:

– عن إيران: “سرقت ثروات شعبها لسفك الدماء في الخارج… وإذا رفضت غصن الزيتون واستمرّت في قصف الجيران، فلا خيار سوى فرض أقصى الضغوط”.

– عن سوريا: وافق على رفع العقوبات ولقاء الرئيس السوري أحمد الشرع “بطلب من الأمير محمّد بن سلمان الذي سأفعل أيّ شيء يطلبه”.

– عن لبنان: “الحزب وحلفاؤه سرقوا آمال الشعب اللبناني، وبيروت التي كانت سويسرا الشرق… كلّ هذا كان يمكن أن نتفاداه، ومحمّد يعرف هذا”، متعهّداً بدعم “مستقبل مزدهر وسلام مع الجيران”.

– عن الهند وباكستان، وروسيا وأوكرانيا: أعاد ترامب التذكير بمحوريّة السعوديّة في الوساطات الإقليمية والدولية، شاكراً جهودها في غزّة، وفي تهدئة التوتّرات بين موسكو وكييف.

نهاية “الإسلاموفوبيا”… مع “محمّد الرجل العظيم”

بعد أكثر من عقدين من “الإسلاموفوبيا”، وخوف حاملي اسم “جهاد” و”أسامة” في مطارات الغرب، عاد اسم “محمّد” ليمثّل الحداثة والليبرالية والتصالح بين الغرب والشرق. إذ قدّم ترامب “مُحمّداً” رمزاً للحداثة والتصالح بين الإسلام والغربيّين.

لم يسبق لرئيس أميركي أن خاطب زعيماً عربيّاً بهذا القدر من الحفاوة والتمجيد. فقال عن الأمير محمّد بن سلمان إنّه “رجل عظيم”، “أحبّه كثيراً”، “أفعل أيّ شيء من أجله”، و”لا يشبهه أحد”، و”لا ينام الليل من أجل بلاده”.

تعلن هذه العبارات بلا مواربة تبدّلاً في المعايير الأميركية التي ستحكم المنطقة، وحلفاً تاريخيّاً مع “أهل السنّة” في المنطقة، بعدما كانت “الإدارة السابقة تعطي المليارات لإيران كي تموّل الميليشيات التي تقصف جيرانها”، كما قال ترامب.

رئيسٌ يهين نتنياهو… ويُمجّد بن سلمان

هو نفسه الرئيس الذي لطالما أهان رؤساء وحلفاء. فقد أهان رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو داخل البيت الأبيض حين كان يعلن تحضيرات بلاده لضرب المفاعل النووي الإيراني، فباغته ترامب بأن أبلغه أمام الكاميرات أنّه يتفاوض مع إيران. وأضاف أنّ أيّ مشكلة بينه وبين رئيس تركيا رجب طيب إردوغان: “أنا أحلّها… إذا كنتَ منطقيّاً”.

هو نفسه الرئيس الذي أهان رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي، الرجل الذي وقف الغرب كلّه خلفه في معركته ضدّ فلاديمير بوتين. جاء ترامب وكسر هيبته واحترامه أمام كاميرات التلفزيونات ليجبره على إنهاء الحرب والتنازل أمام روسيا.

رئيس يهين نتنياهو رمز الصهيونية، ويهين زيلينسكي، الرجل الأكثر تقديراً في أوروبا وحارس أسوارها من وحشيّة بوتين، هو نفسه يتحدّث لساعة عن “عظمة” محمّد بن سلمان ومحوريّته في “العصر الذهبي لأميركا والشرق الأوسط”.

هذا خطاب تاريخيّ. وسيكون مرجعاً لكلّ ما سيجري في منطقتنا خلال السنوات الكثيرة المقبلة.

محمد بركات