بقلم دافيد عيسى
تُظهر التحركات الأميركية الأخيرة في لبنان، ولا سيما زيارة الموفدة مورغان أورتاغوس، أن واشنطن تسعى لوضع يدها مجددآ على الملف الجنوبي، بعدما فقدت المبادرة (الأوروبية الفرنسية) زخمها في الأشهر الماضية.
نقلت أورتاغوس إلى المسؤولين اللبنانيين رسالة واضحة…
الولايات المتحدة ترى أن خفض التوتر ووقف الاعتداءات الإسرائيلية اليومية على لبنان يتطلبان التوجّه نحو مفاوضات مباشرة مع إسرائيل.
ويأتي ذلك ضمن جهود أميركية حثيثة لتأمين الظروف السياسية والأمنية اللازمة لنجاح هذا المسار.
ويُلاحظ أن الطرح الأميركي الجديد يتضمن إعادة هيكلة اللجنة المكلفة بمتابعة الوضع الحدودي، إذ اقترحت اختصارها من خماسية إلى ثلاثية تضم لبنان والولايات المتحدة وإسرائيل فقط، مع إضافة عناصر مدنية لاحقًا إذا نجحت المرحلة الأولى في تهدئة الجبهة وضبط الإيقاع الأمني جنوب الليطاني.
واللافت أن أورتاغوس لمّحت إلى تراجع الحماس الإسرائيلي تجاه الدور الفرنسي واليونيفيل، ما يعكس تحولًا جوهريًا في مقاربة تل أبيب، إذ ترى أن الضمانة الحقيقية تكمن في الرعاية الأميركية المباشرة، لا في الوساطات متعددة الأطراف.
لذلك، لا يمكن اعتبار التحرك الأميركي مجرد مبادرة ظرفية، بل يُقرأ في سياق أوسع يهدف إلى إعادة ترتيب قواعد الاشتباك في الجنوب وإرساء معادلة جديدة تحت إشراف واشنطن.
كما تسعى الولايات المتحدة إلى استغلال الورقة اللبنانية كمدخل لإدارة أوسع للأزمة الإقليمية، خصوصًا في ظل التجاذب (الإيراني الإسرائيلي) المتصاعد.
وفي هذا الإطار، يبدو التهويل بشأن عودة حرب كبرى مبالغًا فيه، على الرغم من أن الرئيس جوزاف عون يحاول تمرير هذه الأيام الصعبة التي يمر بها لبنان بين مطرقة الضربات الإسرائيلية وسندان حزب الله، ويعمل على تفادي سيناريو الحرب بكل الوسائل.
ومنها أعلانه أن لبنان مستعد للتفاوض مع إسرائيل، وهذا ما سيجنّبنا سيناريو حرب كبيرة.
إضافة إلى ذلك، ساعدت التحركات التي يقوم بها رئيس الجمهورية واتصالاته الدولية المكثفة على تعزيز الاستقرار ومنع انزلاق لبنان نحو مواجهة جديدة.
ويستفيد في ذلك من العلاقات التي نسجها مع مختلف الأطراف الفاعلة لضمان بقاء باب الدبلوماسية مفتوحًا حتى اللحظة الأخيرة.
وقد بات واضحًا أن الثقة الدولية بدور الرئيس عون تتزايد، إذ يُنظر إليه في الأوساط الدبلوماسية والعسكرية على أنه عنصر استقرار قادر على إدارة الوضع بحكمة وهدوء، في وقتٍ إقليمي شديد الحساسية.
دون ان ننسى الدور الذي يقوم به رئيس الحكومة نواف سلام ايضآ من اجل تجنب حرب وعودة الموت والدمار الى لبنان.
في المحصّلة، يمكن القول إن زيارة أورتاغوس وما حملته من أفكار تُعدّ إشارة واضحة إلى أن المرحلة المقبلة ستكون أميركية الطابع بامتياز، بينما أصبح الدور الفرنسي، رغم محاولاته المتكررة، محدودًا في الوقت الراهن.
وبين طموحات واشنطن وحسابات تل أبيب وحساسية الموقف اللبناني، يبدو الجنوب اللبناني مقبلًا على فترة دقيقة لإعادة رسم التوازنات بين التصعيد والدبلوماسية.
في الختام، أقول إن المبادرة الأميركية الراهنة تعكس رغبة جدّية في إعادة الاستقرار إلى الجنوب اللبناني عبر قنوات تفاوضية مرنة تحفظ مصالح جميع الأطراف.
الولايات المتحدة، بما تملكه من نفوذ إقليمي وقدرة على التواصل مع مختلف القوى، تبدو مؤهلة للقيام بدور الوسيط الفعّال في هذه المرحلة الحساسة.
أما لبنان، فتكمن مصلحته في التعاطي الإيجابي مع أي جهد دولي يهدف إلى خفض التصعيد، مع التمسّك في الوقت ذاته بحقوقه وثوابته الوطنية. ومن هنا، قد تشكّل الرعاية الأميركية المباشرة فرصة لإطلاق مسار تفاوضي جديد يوازن بين متطلبات الأمن ومقتضيات السيادة، ويفتح الباب أمام فترة أكثر هدوءًا واستقرارًا في الجنوب.
دافيد عيسى