حديث الجمعة – “مكانة شهر ذي القعدة في الإسلام”

المهندس بسام برغوت

شهر ذي القعدة هو الشهر الحادي عشر من الأشهر القمرية في التقويم الهجري، له مكانة دينية وتاريخية خاصة، حيث إنه أحد الأشهر الحُرُم التي حرم الله فيها القتال والاعتداء، وجعل لها حرمة ومهابة منذ الجاهلية واستمرت في الإسلام، ويأتي مباشرة قبل شهر ذي الحجة الذي فيه موسم الحج.

وذو القعدة شهر يبعث على السكون، التأمل، الاستعداد للعبادة، واستحضار عظمة الشهور المباركة التي خصها الله بفضله.

أولًا: تسميته:

يشتق اسمه من “القعود”، أي الجلوس عن القتال. وكان العرب في الجاهلية يعظمونه ويقعدون فيه عن الغزو والقتال، أي يمتنعون عن شن الحروب ويجنحون للسلام. ويدل هذا المعنى على أن الشهر كان زمانًا للسكون والتهيئة، خاصة أنه يسبق موسم الحج، حيث كان الناس يستعدون للسفر إلى مكة.

وهو أحد الأشهر الأربعة الحُرُم التي قال الله عنها في كتابه الكريم:

” إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..” ( سورة التوبة)

وهذه الأشهر الأربعة هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وكانت تُعظَّم في الجاهلية، فأقرها الإسلام وزاد من تكريمها.

ثانيًا: مكانة ذي القعدة في الإسلام:

من أعظم مزايا هذا الشهر أنه أحد الأشهر الحُرُم، وهي شهور عظيمة لها حرمة خاصة في الشريعة الإسلامية، وقد جاء في الحديث النبوي قول النبي صلى الله عليه وسلم:

“إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حُرُم، ثلاث متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان” (رواه البخاري ومسلم).

وحرمة هذه الشهور تقتضي:

  1. الابتعاد عن الذنوب: فالسيئة أعظم إثمًا فيها.
  2. تعظيم الطاعات: فالأعمال الصالحة فيها أعظم أجرًا.
  3. التحذير من الظلم: فقد قال الله تعالى:

“… مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ..”

ثالثًا: الأحداث التاريخية في شهر ذي القعدة:

شَهِد هذا الشهر عددًا من الأحداث المهمة في تاريخ الإسلام، من أبرزها:

  1. صلح الحديبية (6 هـ)

حدث في ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة، حيث خرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم مع أصحابه رضي الله عنهم معتمرين، وتم منعه من دخول مكة المكرمة، وبعد مفاوضات، تم توقيع صلح الحديبية، الذي كان نصرًا سياسيًا واستراتيجيًا للإسلام رغم ظاهره الذي لم يكن فيه دخول للبيت الحرام.

  1. عُمَرَات النبي صلى الله عليه وسلم:

ورد في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عُمَر، جميعها كانت في ذي القعدة، وهي:

عمرة الحديبية (التي لم تكتمل)

عمرة القضاء

عمرة الجِعرانة

والعمرة التي قرنها مع حجته (حجة الوداع)

وهذا يدل على فضل أداء العمرة في هذا الشهر المبارك.

رابعًا: فضائل الأعمال في ذي القعدة

رغم أن شهر ذي القعدة لا يتضمن عبادات مخصوصة كالصيام أو الصلاة الزائدة المرتبطة به تحديدًا (كما في رمضان أو ذي الحجة)، إلا أنه:

من الأشهر الحرم، وبالتالي فإن:

الطاعة فيه مضاعفة.

الذنب فيه أعظم.

ولذلك يُستحب للمسلم الإكثار من:

الذكر وقراءة القرآن الكريم.

الصيام، خاصة أيام الاثنين والخميس أو الأيام البيض (13-14-15).

الصدقة.

الدعاء والاستغفار.

خامسًا: الاستعداد للحج:

بما أن ذي القعدة يسبق مباشرة شهر ذي الحجة، فهو يعتبر شهر الاستعداد للحج، من عدة جوانب:

النية والتخطيط: حيث يبدأ الحجاج بترتيب رحلاتهم وتجهيز أنفسهم روحيًا وماديًا.

التوبة وتنقية النفس: ليصل الحاج إلى مكة المكرمة بقلب نقي.

زيادة الطاعات: كوسيلة للاستعداد الروحي لهذا الركن العظيم.

سادسًا: دروس مستفادة من شهر ذي القعدة:

  1. السلام الداخلي والخارجي: فكما أن القتال حُرِّم فيه، ينبغي على المسلم أن يجتهد ليعم السلام في نفسه وفي محيطه.
  2. تعظيم شعائر الله: والالتزام بحرمة الزمن كما نلتزم بحرمة المكان.
  3. التهيئة للعبادة: ففيه نستعد لأفضل أيام الدنيا (عشر ذي الحجة).
  4. العودة إلى الله: بالإكثار من الطاعة والتوبة والاجتهاد في الأعمال الصالحة.

سابعًا: كيف نحيي شهر ذي القعدة؟

يمكن لكل مسلم ومسلمة إحياء هذا الشهر من خلال:

مراجعة النفس: ومعرفة نقاط الضعف والإهمال في الطاعات.

وضع خطة لعبادة قوية: استعدادًا لعشر ذي الحجة.

الإكثار من الذكر: كالتسبيح، التهليل، التحليل، الاستغفار.

طلب العلم: بقراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، خاصة ما يتعلق بالحج والعمرة.

صلة الرحم: وتعزيز العلاقات الأسرية.

العمل التطوعي: والمشاركة في أعمال الخير.

ختاماُ ،

شهر ذي القعدة ليس مجرد فترة زمنية تمر في نهاية العام الهجري، بل هو شهر من الأشهر الحُرُم التي خصها الله بمكانة عظيمة، وهو محطة هادئة للتزود الروحي قبل أن يدخل المسلم في موسم من أعظم مواسم الطاعة، وهو موسم الحج. فليحرص المسلم أن يستثمر أيامه ولياليه في القرب من الله، وتعظيم شعائره، وتزكية نفسه، والتهيئة لما هو أعظم.

المهندس بسام برغوت