المهندس بسام برغوت
نزلت سورة المطففين لتؤسس لمجتمع نظيف قائم على الصدق والأمانة في المعاملات، وتنهى عن الظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، حتى في أدق التفاصيل مثل الكيل والوزن، فقال تعالى في مطلعها: “وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)”. هذه الآيات القرآنية الكريمة تحذر وتهدد كل من يمارس الغش في الكيل والوزن، وهو من صور الفساد الاقتصادي والاجتماعي التي تهدم أركان العدل وتخلّ بالتوازن في التعاملات بين الناس.
كلمة “ويل” هي من أشد ألفاظ الوعيد في اللغة العربية، وتدل على عذاب أليم أو وادٍ في جهنم كما فسره بعض العلماء، ويدل هذا اللفظ على خطورة الجريمة التي يرتكبها المطففون.
ومعنى “التطفيف” هو أخذ الحق من الناس وطلبه كاملاً غير منقوص، بمعنى إذا أعطى الناس حقوقهم أنقصها، إما بالحيلة أو بالغش أو بالإهمال. وهذا السلوك يعكس أنانية بغيضة، وجشعاً يدفع الإنسان لتغليب مصلحته على حساب الآخرين. وهذا يُعدّ من كبائر الذنوب، لأنه لا يخل بالمعاملة فحسب، بل يهدم الثقة بين الناس ويُفسد المعايير التي تضبط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في المجتمع.
وليس التطفيف محصورا بالكيل والوزن فقط، بل هو أعم وأشمل، ليشمل كل من يظلم في المعاملات، سواء في البيع والشراء، أو في العقود والعهود، أو حتى في تقييم الناس والحكم عليهم، ويشمل الغش في الصناعة، والتزوير في الأوراق، والكذب في الإعلانات، وحتى الظلم في توزيع المسؤوليات أو الترقيات أو الفرص في أي مؤسسة. فكل ذلك يدخل ضمن معنى التطفيف الذي نهى عنه الإسلام.
وقد ذكر المفسرون أن أهل المدينة كانوا مشهورين بذلك قبل الإسلام، فجاءت هذه السورة تحذرهم وتبين خطورة ما يفعلون. ولم يكن التحذير لهم فقط، بل لكل من يأتي بعدهم ممن يمارس هذا النوع من الظلم. ولذلك فإن سورة المطففين تُعد وثيقة إصلاح اقتصادي واجتماعي شاملة، إذ تقرر مبدأ العدل والإنصاف في جميع المعاملات.
ولم يكتف القرآن الكريم بالتحذير، بل بيّن أن هذا السلوك هو نتيجة لفقدان الإيمان الحقيقي بالبعث والحساب، كما قال تعالى: “أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)”. فالذي يستشعر أنه سيقف بين يدي الله تعالى يوم القيامة ويُحاسب على مثقال الذر من عمله، لا يمكن أن يطفف أو يغش. فالربط بين الغش في الدنيا والحساب في الآخرة هو من أعظم وسائل التربية التي يعتمدها الإسلام في إصلاح النفوس.
وفي هذا إشارة إلى أن الأمانة والعدل في المعاملة ليست فقط سلوكيات دنيوية تُنظم حياة الناس، بل هي أيضاً عبادات يثاب عليها المسلم، وتُقربه من الله وتُعلي منزلته في الآخرة.
وإذا نظرنا إلى واقعنا المعاصر، نجد أن التطفيف قد اتخذ أشكالاً متعددة، بعضها ظاهر وبعضها خفي. فهناك من يغش في الوزن عند البيع، وهناك من يخفي عيوب البضاعة عن المشتري، وهناك من يكتب تقارير مزيفة في العمل لينال ترقية لا يستحقها، وهناك من يعطي وقتاً أقل مما يُفترض في عمله ويأخذ أجراً كاملاً، وهناك من يتأخر عن دفع مستحقات العاملين لديه. كل هذه الصور وغيرها تندرج تحت مظلة التطفيف، وإن اختلفت أشكالها أو أماكنها. فالمطفف قد يكون تاجراً، أو صانعاً، أو موظفاً، أو مسؤولاً في منصب عالٍ. وما يجمعهم هو الغش، والظلم، ونقص الحقوق عن أصحابها.
إن المجتمع الذي يسوده التطفيف هو مجتمع مفكك، تنهار فيه القيم، وتغيب فيه الثقة، وتكثر فيه الشكاوى، وتضعف فيه الروابط الإنسانية. بينما المجتمع القائم على الصدق والعدل هو مجتمع مزدهر، يتعاون فيه الناس على البر والتقوى، وتترسخ فيه مفاهيم الأمانة والمراقبة الداخلية، ويشعر كل فرد فيه بالأمان على نفسه وماله وكرامته.
ولذلك فإن مسؤولية مكافحة التطفيف لا تقع على الأفراد فقط، بل على المجتمع بأسره، بدءاً من الأسرة التي تُعلّم أبناءها الصدق وعدم الغش، مروراً بالمدرسة التي تربي الطلاب على النزاهة، وانتهاءً بالدولة التي تشرع القوانين وتراقب الأسواق وتحاسب من يخلّ بمعايير العدل. كما أن على العلماء والخطباء دوراً كبيراً في التوعية بخطورة هذا السلوك، وتذكير الناس بقول النبي ﷺ: “من غشّنا فليس منا”، أي أن الغش يخرج الإنسان من صفوف المؤمنين.
ولا يقتصر التطفيف على العلاقات الاقتصادية، بل يشمل أيضاً العلاقات الاجتماعية والإنسانية، فمثلاً: من يُحسن إلى الناس إذا أحسنوا إليه، ويُسيء إذا أساءوا، أو من يتوقع من الآخرين الوفاء بينما هو لا يوفي، أو من يطالب بحقوقه دون أن يؤدي ما عليه من واجبات، كل هؤلاء يمارسون نوعاً من التطفيف الأخلاقي. فالإسلام يريد من المسلم أن يكون متزناً في علاقاته، عادلاً في تعامله، حريصاً على إعطاء الناس حقوقهم قبل أن يطالب بحقه.
وفي الختام، إن التطفيف في الكيل والميزان ليس مجرد مسألة تجارية أو مالية، بل هو مرض أخلاقي واجتماعي، يحتاج إلى علاج جذري في النفوس، وإلى وعي دائم بخطورته، وإلى تربية صادقة على الخوف من الله تعالى ومراقبته في كل صغيرة وكبيرة. فكما أن الله توعد المطففين بالويل، فقد وعد الصادقين والأمناء بالجنة، وقال في الحديث القدسي: “أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما”. فليحرص كل منا على أن يكون أميناً، عادلاً، صادقاً، لا يطفف في ميزان الله، حتى ينال رضاه في الدنيا والآخرة.
المهندس بسام برغوت