بقلم عبادة اللدن
«اساس ميديا»
لم يسبق للنفط أن كان مادّة ملتهبة في السباق الرئاسي الأميركي كما هو اليوم، الأمر الذي سيحتّم على دول المنطقة أن تتحرّى الكثير من الحذر في الاقتراب من مناطق الاشتباك بين المعسكرين الديمقراطي والجمهوري.
من مظاهر اشتعال الملفّ تحريكُ عشر دعاوى جماعية في وقت واحد ضدّ كبريات شركات النفط الأميركية بتهمة التآمر لخفض إنتاج النفط ورفع الأسعار. وأتى ذلك بعد أسبوعين فقط من قيام مفوضية التجارة الفدرالية (FTC)، وهي جزء من الإدارة الأميركية، بتوجيه اتّهام لشخصية مرموقة في القطاع النفطي الأميركي بمحاولة التآمر مع “أوبك” لخفض إنتاج النفط ورفع أسعاره.
إنذار للقطاع بأكمله
الشخص المستهدَف بالاتّهام هو سكوت شفيلد، الذي كان يشغل حتى وقت قريب الرئاسة التنفيذية لشركة “بايونير” للخدمات النفطية، قبل أن تستحوذ عليها أكبر شركة نفط في أميركا، “إكسون موبيل”، أواخر العام الماضي في صفقة قاربت 60 مليار دولار. والرجل معروف كمتحدّث مفوّه في تمثيل القطاع النفطي الأميركي والدفاع عن مصالحه. ولذلك فُسِّر استهدافه كإنذار للقطاع بأكمله، خصوصاً أنّ من أدلّة الاتّهام التي قدّمتها FTC أنّ الرجل حضر عشاء مع مسؤولي “أوبك” في هيوستن عام 2017، على هامش الحدث السنوي الشهير الذي تستضيفه عاصمة النفط في الولايات المتحدة “سيرا ويك”. والغريب أنّ هذا العشاء كان على الملأ، وتحدّثت عنه وسائل الإعلام كثيراً في ذلك الحين، وشارك فيه كبار المسؤولين في شركات النفط الأميركية.
عِلّة الأمر أنّ في واشنطن شعوراً بأنّ قطاع النفط والغاز الأميركي بات يتحدّث لغة تشبه إلى حدّ بعيد لغة دول “أوبك”، والسعودية على نحو أخصّ، في وجه “شيطنة” النفط والغاز بنفسٍ لا يخلو من الأدلجة. وقد بدا ذلك في مؤتمر استضافته الرياض قبل أسبوعين، وتحدّث في إحدى جلساته الرئيس التنفيذي لـ “إكسون موبيل” دارين وود جنباً إلى جنب مع وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان ونظيره القطري سعد الكعبي. وبدا في تلك الجلسة أنّ لغة الشركات الكبرى تفترق كثيراً عن لغة البيت الأبيض وتقترب من دول الخليج في خطاب عمادُه أنّ السياسات الحالية لتحوّل الطاقة ستؤدّي إلى مشكلة عالمية إذا ما استمرّت استثمارات النفط والغاز بالتراجع، وأنّ النفط والغاز سيظلّان جزءاً من مزيج الطاقة العالمي لعقود طويلة مقبلة، وأنّ بالإمكان جعل العمليات النفطية أكثر صداقة للبيئة من خلال تقنيّات جديدة مثل “احتجاز الكربون”.
ترامب وبايدن والبيئة ثالثتهما
في المقابل، يقف دونالد ترامب ضدّ سياسات بايدن البيئية بلا مواربة. وهو الذي كان قد وقّع على انسحاب بلاده من اتفاقية باريس للمناخ حين كان في البيت الأبيض. وذكرت صحف أميركية عدّة في الأيام الماضية أنّ ترامب اجتمع بمسؤولي الشركات النفطية الكبرى الشهر الماضي وطلب منهم التبرّع بمليار دولار لحملته الانتخابية، متعهّداً في المقابل بعكس سياسات بايدن البيئية، واستئناف منح التراخيص للتنقيب عن النفط والغاز في الأراضي الفدرالية، ولإنشاء منصّات تصدير الغاز المسال.
لا شكّ أنّ اللوبي النفطي الأميركي يميل تاريخياً إلى الجمهوريين، ويتأكّد ذلك بأرقام التبرّعات التي قدّمتها الشركات النفطية للحملات الانتخابية للمعسكرين الديمقراطي والجمهوري منذ بداية العام.
مشكلة بايدن أنّ الأيديولوجية المعادية للنفط التي يحملها امتزجت في السنة الأولى من ولايته، على الأقلّ، بخطّ سياسي ينأى عن حلفاء أميركا التقليديين في المنطقة. وقد تغيّرت هذه السياسة بشكل واضح في النصف الثاني من ولايته، فبات ينظر إلى السعودية كركيزة للاستقرار في المنطقة ولأيّ حلّ مستدام للصراع العربي الإسرائيلي. لكنّ سياساته في مجال الطاقة ما زالت تراوح مكانها.راهن جو بايدن منذ ما قبل دخوله البيت الأبيض على خطّة اقتصادية كبرى تقوم على إنفاق أكثر من تريليون دولار لتسريع “تحوّل الطاقة” بعيداً عن النفط والغاز واستعادة الصدارة في تصنيع الرقائق الإلكترونية المتقدّمة. ومن أجل ذلك ألقت إدارته بكلّ ثقلها لإقرار ثلاثة قوانين أساسية، أحدها “قانون خفض التضخّم” الذي هو في حقيقة الأمر حزمة تشريعية بنصف تريليون دولار لدعم صناعة السيارات الكهربائية والطاقات المتجدّدة والنظيفة، لتتمكّن الولايات المتحدة من الهيمنة على النموّ الكبير المتوقّع لهذه القطاعات في العقود المقبلة، في مواجهة المنافسة الصينية الشرسة.
إلا أنّ الواقع قبل أشهر قليلة من الانتخابات لا يقدّم أيّة دلائل على نجاح قانون خفض التضخّم. فشركات صناعة السيارات الأميركية تواجه صعوبات كبيرة في التحوّل إلى السيارات الكهربائية، ونظيرتها الصينية تغزو الأسواق العالمية بسرعة مذهلة. وهذا ما دفع إدارة بايدن إلى التحوّل فجأة إلى سياسة حمائية متطرّفة، لتفرض رسوماً غير مسبوقة على قائمة طويلة من السلع الصينية، من ضمنها مضاعفة الرسوم على السيارات الكهربائية الصينية أربع مرّات إلى 100%، وهي نسبة لا مثيل لها إلا في الدول الاشتراكية في زمن الاتحاد السوفيتي!
مأزق بايدن
هذا الفشل لقانون خفض التضخّم، حتى الآن على الأقلّ، يضرب السجلّ الاقتصادي لبايدن في مقتل، على الرغم من أنّه يستطيع تقديم الكثير من البيانات الإيجابية لأداء الاقتصاد في عهده. فسوق العمل وفّرت أكثر من 15 مليون فرصة جديدة منذ مطلع 2021، والبطالة عند أدنى مستوياتها في أكثر من خمسين عاماً، والاقتصاد تفادى الركود بعدما كان يبدو حتميّاً العام الماضي. ومع ذلك، تُظهر استطلاعات الرأي أنّ ترامب يتقدّم على بايدن بـ 22 نقطة مئوية في انطباعات الناخبين عمّن يستطيع إدارة الاقتصاد بشكل أفضل، ولا تفسير لذلك سوى أنّ التضخّم المرتفع يثقل كاهل المواطن الأميركي. وهذا ما يجعل ترامب متقدّماً على بايدن في كلّ الولايات المتأرجحة، وفق استطلاعات الرأي.
لذلك يبدو التضخّم العقبة الكبرى أمام حملة إعادة انتخاب بايدن، ولا يجد الديمقراطيون سبيلاً لتجاوزها إلا بتوجيه الأنظار إلى شركات النفط الكبرى، واتّهامها بالتآمر مع “أوبك” لرفع الأسعار. وليست هذه إلا نبذة من الأسلحة التي سيزجّ بها الطرفان في المعركة الانتخابية.
المفارقة أنّ كلّ الأيديولوجية المعادية للنفط في البيت الأبيض قابلتها وقائع مختلفة على الأرض. فالولايات المتحدة سجّلت في عهد بايدن مستويات قياسية جديدة لإنتاج النفط قاربت 13.5 مليون برميل يومياً. وكانت أكبر منتج للنفط والغاز في العالم العام الماضي. والأهمّ أنّ البصمة الكربونية (الملوّثة) لإنتاج النفط الأميركي تعادل ثلاثة أضعاف مثيلتها في السعودية.
لذلك يعتقد الكثيرون من أرباب الصناعة النفطية أنّ هويّة الفائز في السباق الرئاسي ربّما تحدّد ما يقال في المنتديات وأمام الكاميرات، لكنّ الواقع في حقول النفط وموانئ التصدير سيظلّ محكوماً بمنطق آخر.
عبادة اللدن