رسائل الى كبار القادة السياسيين ‏

قواعد المفاوضات 4

الحلقة 27

د. عماد فوزي شُعيبي

‏نواصل سرد النصائح التي تقدم إلى كبار القادة وكبار الإداريين وذلك بلا اعتماد على كتابنا القواعد النفسية للسلطة في تعديلاته الجديدة.

هنا نتابع قواعد المفاوضات:

اقرأ جسده وأدرْ ما في عقله

“الجسد يصرخ ما لا يقوله اللسان.”

— نيتشه

ما يُخفى بالكلمات، يُفضح بالإيماءات.

تمتع بخبرة قراءة لغة الجسد لاكتشاف الحالة المزاجية للخصم، فإذا كان متفائلاً سيتقبل عروضك، مهما كانت بسيطة، بانفتاح.

أما إذا رأيته شارد الذهن فاطلب وقتاً مستقطعاً بأي ذرائع من نوع إعطاء الأطراف بعض الراحة أو مناقشة أمر هام بين أعضاء فريقك على انفراد أو الاتصال بالخبراء لطلب استشارتهم  أو للاتصال بالرؤساء للحصول على موافقتهم أو لتقوم ببعض البحث حول موضوع له أفضليّة، ولتقلْ أن ليس لديك معلوماته الكافية.

كل هذه الذرائع لجعل الطرف الآخر أكثر تركيزاً، وذلك لعدم إضاعة الوقت معه وبنفس الوقت لعدم إشعاره بأنك أوقفت المفاوضات بسبب شروده.

المفاوض الذكي لا يكتفي بكلمات خصمه، بل يقرأ لغة جسده ليكتشف حالته النفسية والمزاجية. الانتباه لحركات العين، الجلسة، تنفسه، نظراته، وتردده، كلها تعطي إشارات: هل هو مرتاح؟ متردد؟ شارد؟ غاضب؟ ومن ثم يتصرف بناءً على تلك الإشارات: إن رآه شاردًا، يطلب استراحة؛ إن رآه متحمسًا، يطرح العرض الأكثر ربحًا؛ وإن بدا عليه التوتر، يقلل الضغط عنه ليحصل على أفضل ما يمكن.

أمثلة تفاوضية سياسية:

جون كينيدي في أزمة الصواريخ الكوبية (1962)

عندما التقى مستشاروه بالمبعوث السوفيتي دوبيرنين، لاحظوا توترًا وارتباكًا في لغة جسده، مما دفع كينيدي إلى اختيار لغة تهدئة في رسالته الثانية لخروتشوف، متجاهلًا الرسالة التصعيدية السابقة، وقد كانت هذه الحركة التكتيكية مفصلية في نزع فتيل الحرب النووية.

باراك أوباما ومفاوضات الاتفاق النووي مع إيران (2015)

عندما بدا على وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الإحباط في مرحلة من المفاوضات، رصد الفريق الأمريكي ذلك وأدرك أنه بدأ يشعر بالضغط الداخلي، فخففوا وتيرة التصعيد في تلك الجلسة، ما سمح بالعودة إلى مسار إيجابي.

جيمي كارتر ومفاوضات كامب ديفيد (1978)

لاحظ كارتر شرود السادات في إحدى الجلسات، فطلب استراحة “إنسانية” قصيرة لممارسة المشي في الحديقة، ثم استغلها للحديث الجانبي غير الرسمي الذي أعاد الثقة بين الطرفين ومهّد للوصول إلى اتفاق السلام.

أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:

ستيف جوبز ومفاوضات Apple مع شركة Adobe (2000s)

عُرف عن جوبز أنه كان يراقب بعناية لغة الجسد لكل من يتفاوض معه، ويستنتج منها ما لم يُقل. في إحدى الجلسات، لاحظ تردّدًا عند عرض شروط معينة على Adobe، فغير نبرة النقاش ليبدو أكثر مرونة، وانتزع لاحقًا شروطًا تقنية لصالح Apple.

شيريل ساندبرغ في فيسبوك عند تفاوضها مع أطراف الاستثمار

كانت تلجأ إلى قراءة تعابير الوجه ومراقبة أي حركة لليدين أو الأرجل أثناء المفاوضات، لتحديد مدى تقبّل الطرف الآخر لكل بند، وتوجه النقاش وفقًا لذلك. استخدمت هذه المهارة لتحديد اللحظة المناسبة لتقديم عرض مغرٍ أو الصمت الاستراتيجي.

تحليل تطبيقي:

لغة الجسد أداة غير منطوقة للتفاوض، لكنها من أقوى الوسائل. حين ترى شريكك في التفاوض:

يكثر من لمس أنفه = توتر أو عدم صدق.

يهزّ قدمه باستمرار = ملل أو ضيق أو انتظار للحظة “الهروب”.

يفتح كفيه ويميل للأمام = انفتاح واستعداد لقبول العرض.

وعندما تلاحظ الشرود أو التشتت، لا تهاجمه أو تستمر في الحديث، بل استثمر ذلك لتطلب استراحة بذريعة لوجستية أو استشارية. بذلك، تتجنب خسارة وقت أو إدخاله في مواقف قد تفسد الصفقة.

مثلاً:

تقول: “أحتاج 10 دقائق للتشاور مع فريقي.”

أو: “هل يمكنني الاتصال بالمستشار القانوني قبل التعليق على هذا البند؟”

وفي الوقت نفسه، تمنح خصمك فرصة لاستعادة تركيزه… وربما لتعديل موقفه

***

قلّل من شعوره بالمُخاطرة

“البطولة ليست في غياب الخوف، بل في معرفة كيف

يُدار.”

— أفلاطون

التفاوض فنّ تهدئة خوف الآخر من السقوط.

إذا كان على الطرف الآخر تقديم أمر يعتبره مخاطرة، فإن عليك أن تقلّل من حجم الشعور بالمخاطرة لديه بإشعاره بعظمة فعله والتركيز على الإيجابيات وتقديم المبرّرات التي يمكن أن يحتاجها لدى جمهوره؛ بمعنى أن تكون محامياً له ومن أجله!!!

اجعل خطوته تبدو بطولية، وأظهر له المنافع، وسوّق له المبرّرات التي يمكن أن يقدّمها لجمهوره أو مرؤوسيه أو ناخبيه أو إدارته. كن كأنك محاميه، لا خصمه.

أمثلة تفاوضية سياسية:

اتفاقية السلام بين جنوب أفريقيا وحكومة الفصل العنصري (1990s)

نيلسون مانديلا خفف شعور “دي كليرك” بالمخاطرة بتسليم الحكم للأغلبية، بأن ضمن له بقاء امتيازات بيضٍ معينة، وسوق له سردية “الانتقال السلمي” التي تُرضي قاعدته البيضاء. هكذا تم التنازل التاريخي دون انهيار.

اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية (1993)

عمل فريق رابين على تبرير التنازل عن الضفة وغزة عبر تقديمه كصفقة أمان لإسرائيل، ما خفف من ضغط الداخل الإسرائيلي وشعور قادتهم بالمخاطرة. في المقابل، ساعد الفريق النرويجي عرفات في “تبني التدرّج” كمبرر داخلي لدى الفصائل.

اتفاق خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست)

أثناء المفاوضات، أعطى الأوروبيون لرئيسة الوزراء تيريزا ماي مخرجًا لتقليل المخاطرة، مثل “فترة انتقالية” طويلة، ليبدو الاتفاق معقولًا أمام البرلمان البريطاني الذي كان معارضًا للاتفاق الصلب أو التام.

أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:

استحواذ Google على YouTube (2006)

خشي مؤسسو YouTube من فقدان الهوية أو التعرض للملاحقة القانونية بعد الاندماج. قللت Google من شعورهم بالمخاطرة عبر ضمانات تشغيلية واستقلالية داخلية، بالإضافة إلى دعم قانوني قوي تجاه قضايا الملكية الفكرية.

صفقة استثمار SoftBank في WeWork

عندما انهارت ثقة المستثمرين في WeWork، تفاوض ماسايوشي سون من SoftBank مع الإدارة الجديدة، مخففًا شعورهم بالمخاطرة من خلال تقديم سيولة نقدية فورية وضمانات مستقبلية وإبقاء بعض مدراء الشركة في مناصبهم لتقليل الخوف من التغيير الحاد.

تحليل تطبيقي:

الشعور بالمخاطرة أحد أكبر أسباب التردد في التفاوض. وظيفة المفاوض هنا تشبه وظيفة المحامي، أو المستشار، أو حتى صانع الصورة العامة.

ما تفعله:

تمنحه “لغة تسويقية” لقراره.

تقدّم له مبررات منطقيّة ونفسية ليواجه بها من سيحاسبه.

تخفف عنه الضغط بأن تعرض خطوات تدريجية.

تلمّح له بأن التنازل لا يُنقصه بل يرفعه.

مثلاً:

“أنت السبّاق لاتخاذ قرارات جريئة باسم الجميع.”

“ما تفعله الآن سيُذكر تاريخيًا على أنه إنقاذ، لا تنازل.”

“يمكننا تقديم هذا كخيار استراتيجي، لا تنازل سياسي.

***

سيتنازل … وتقوى سلطته

من يَنتقم يكون عبداً لانفعاله، أما من يعفو فيكون سيداً لنفسه.”

— فريدريك نيتشه

(السلطة لا تُمارَس بالانتقام بل بضبط النفس.)

إذا كان خصمك  يُبدي تخوفاً من إهدار سلطته إذا تنازل، أعطه الشعور بأن سلطته ستكون أكبر، وقدّم له ضمانات تجعل تنازلاته غير محفوفة نفسياً لديه بالشعور بالمخاطرة وامنحه فترات مقسطة للشعور بالثقة على دفعات؛ بمعنى أن تمهد له الطريق أمام دخوله هذه المخاطرة فعلاً.

الانتقام أثناء المفاوضات يجرّك إلى الشخصنة والفوضى، ويقوّض الأهداف. عندما يُهينك خصمك أو يستفزك، قاوم الرغبة في الردّ العدائي أو العقابي. كن أسمى من الاستفزاز، فالقوة في السيطرة على الذات. الانتقام قد يُشبع ذاتك للحظة، لكنه يدمر المسار التفاوضي.

أمثلة تفاوضية سياسية:

نلسون مانديلا بعد خروجه من السجن (1990):

رغم 27 سنة من السجن والظلم، رفض مانديلا الانتقام من النظام العنصري عند توليه الحكم. حافظ على السلام الداخلي وعقد مفاوضات عادلة، مما منحه احتراماً تاريخياً عالمياً وجعل من جنوب إفريقيا نموذجاً للانتقال السلمي.

هنري كيسنجر في مفاوضات باريس مع فيتنام الشمالية (1973):

رغم خسائر أمريكا وتهديدات الفيتناميين، لم ينجر كيسنجر إلى ردود انتقامية أو عرقلة المفاوضات، بل حافظ على مسارها لإنهاء الحرب، حتى ولو على حساب المكاسب الفورية.

الملك حسين واحتواء محاولة انقلاب أيلول الأسود (1970):

بعد محاولة منظمة التحرير الإطاحة بالحكم الأردني، لم يتجه الملك حسين إلى تصفية الحسابات، بل فاوض ياسر عرفات لاحقاً في مؤتمر القاهرة 1970، حفاظاً على توازنات داخلية وإقليمية.

أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:

مايكروسوفت تشتري GitHub (2018):

رغم سنوات من العداء من مطوري GitHub تجاه مايكروسوفت، اختارت الأخيرة عدم الانتقام أو الهيمنة بعد الاستحواذ، بل حافظت على استقلال المنصة، مما كسبها ثقة المطورين ووسع قاعدة المستخدمين.

كوكاكولا بعد تسريب أسرار إلى بيبسي:

في 2006، رفضت كوكاكولا الرد بالمثل عندما عرض موظف سابق بيع أسرار الشركة لبيبسي. بيبسي نفسها أبلغت كوكاكولا بالعرض. في هذا الموقف التفاوضي غير المباشر، انتصر العقل على الانتقام، مما عزز مصداقية الشركتين.

تحليل تطبيقي:

في لحظة الغضب، يتصرف المفاوض كطفل جُرح كبرياؤه، فيتحول التفاوض إلى معركة شخصية. عليك أن تميّز بين “الأنا” وبين “المصلحة”.

راقب مشاعرك بدلاً من التعبير عنها فوراً.

مارس “التأجيل التكتيكي” للرد: استعن بفريقك أو خذ استراحة.

اجعل خصمك يتساءل عن سبب هدوئك، لا أن يَفرح بانفجارك.

الردّ البارد أبلغ من الرد الحاد. وغالباً ما يُربك الخصم أكثر.

قاعدة ذهبية:

حفاظك على هدفك الاستراتيجي أسمى من رغبتك اللحظية بالثأر

د. عماد فوزي شُعيبي