رسائل الى كبار القادة السياسيين

‏قواعد المفاوضات 4

‏الحلقة 28
د. عماد فوزي شُعيبي
‏نواصل سرد النصائح التي تقدم إلى كبار القادة وكبار الإداريين وذلك بلا اعتماد على كتابنا القواعد النفسية للسلطة في تعديلاته الجديدة.
هنا نتابع قواعد المفاوضات:
قاوم رغبتك بالانتقام
“الناضج هو من لا يدع غضب الآخرين يجرّه إلى مستوى الانفعال.”
— ماركوس أوريليوس
التفاوض فنّ نزع الشخصنة من القضايا.
نكرر مرة أخرى: لا تنتقم إذا فقد خصمك أعصابه أو فعل شيئاً أغضبك. فمقاومة الرغبة في الانتقام هي فعل تفاوضي رفيع، والانتقام يدخل المفاوضات في الاعتبارات الشخصية والفوضى.
عندما ينفعل الطرف الآخر، لا ترد على الشخص بل وجّه اللوم إلى “السلوك” أو “سياق الانفعال”. لا تقل له “أنت لا تليق”، بل قل: “هذا الانفعال لا يليق بموضوع مفاوضتنا”. هذا يُنزع الطابع الشخصي من التفاوض ويعيد ضبط العلاقة على أسس عقلانية.
أمثلة تفاوضية سياسية:
جون كينيدي في أزمة الصواريخ الكوبية (1962):
عندما اشتد الخطاب السوفيتي في رسائل خروتشوف، تجاهل كينيدي الانفعالات، وتعامل مع الرسائل الرسمية بهدوء، مفضلاً قراءة العرض الأكثر عقلانية لتجنّب التصعيد النووي.
ياسر عرفات في مفاوضات كامب ديفيد الثانية (2000):
عندما انفعل إيهود باراك ورفع صوته أثناء خلاف حول القدس، رد عرفات بهدوء قائلاً: “الموضوع أكبر من الغضب، القدس لا تُؤخذ بانفعال”، ما أعاد التوازن النسبي للقاعة رغم التوتر.
ديغول في مفاوضاته مع الثوار الجزائريين:
رغم ضغوط العسكريين الفرنسيين، أصر على ضبط الانفعالات خلال المفاوضات، معتبراً أن الانفعال لا يليق بمستقبل فرنسا أو الجزائر.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
ستيف جوبز في مفاوضاته مع ديزني قبل إنتاج “فايندينغ نيمو”:
عندما اتخذت ديزني موقفاً حاداً بخصوص الأرباح، لم يرد جوبز بغضب، بل قال: “لنقاش بهذه الأهمية، علينا أن نكون أقل انفعالاً وأكثر ابتكاراً”، مما ساعد على استمرار التعاون.
أوبر في مفاوضاتها مع مدينة لندن (2017):
رغم اتهامات لندن لأوبر بعدم الأمان، لم ترد الشركة بانفعال، بل صرحت: “نأمل أن تستمر المحادثات بهدوء لأن مصير آلاف السائقين مرتبط بها”، ما منحها فرصة تجديد الترخيص لاحقاً.
تحليل تطبيقي:
في التفاوض، الانفعال قد يكون اختباراً لا أكثر. الطرف الآخر يريد جرّك إلى ملعب “الذات” بدلاً من “الموضوع”.
مهمتك:
اسحب الحوار نحو “الشيء المُتنازَع عليه” لا “الانفعال حوله”.
قل له: “أعرف أن القضية تهمك جداً، لكن فلنُبقِ الأمر على مسار المصلحة المشتركة”.
لا تهاجمه كشخص، بل حدّد سلوكه ثم عد إلى الموضوع.
التكتيك النفسي:
عدّل الضمير في جملتك من “أنت غاضب” إلى “هذا الانفعال لا يخدم موضوعنا”
انفعاله… لايليق بموضوع المُفاوضات
عندما ينفعل الطرف الآخر، وأردت أنت تنتقده وتلومه فليكن ذلك انتقاداً بنّاءً؛ بالقول إنك لم تعتد أن تراه بهذا الانفعال وهو لا يليق بالقضية التي يفاوضك عليها. ولاحظ هنا أنك لم تقل إنه لا يليق به إنما لا يليق بموضوع مفاوضاته، وبهذا تنزع الجانب الذاتي من المفاوضات.
***
وجهك… تمثال من شمع!
عند الوصول للحظة الحرجة في التفاوض، لا تكافئ خصمك عندما يثور بتهدئته. تصنَّع على وجهك علامات التمثال، ما سيرد نوبة غضبه عن هذا التمثال الافتراضي. فطالما أن لا رد فعل لديك فأنت عندئذ لست طرفا في انفعاله.
اذاً، عندما يثور الطرف الآخر أثناء المفاوضات، لا تُظهر ردود فعل، بل اجعل وجهك خالياً من الانفعال، كتمثال شمعي. الصمت وعدم التفاعل يُحبط الطرف المنفعل لأنه لا يجد استجابة تُغذي غضبه، مما يؤدي إلى تقليل حدة التوتر ويعيده إلى دائرة التفاوض العقلاني.
أمثلة تفاوضية سياسية:
المفاوضات بين نيلسون مانديلا والحكومة العنصرية في جنوب إفريقيا:
في لقاءات حساسة، وُجّهت لمنديلّا اتهامات وشتائم، لكنه لم يردّ بوجه غاضب ولا بكلمات، بل اكتفى بنظرات هادئة. هذا الثبات هزم الانفعال وأكسبه الاحترام.
هنري كيسنجر في مفاوضات باريس مع الفيتناميين الشماليين:
عندما كان المفاوض الفيتنامي ينفجر غضباً في وجه كيسنجر، كان الأخير يظل صامتاً، يُدوّن ملاحظاته ببرود. ما أثار حيرة الفيتناميين وقلل من اندفاعهم في الجلسات التالية.
تشرتشل في مفاوضاته مع ستالين ويالطا (1945):
حين كان ستالين يستخدم نبرة قاسية أو تهكمية، اكتفى تشرتشل بنظرات باردة وابتسامة صامتة، مما جعل ستالين يراجع تكتيكه لعدم جدواه.
أمثلة تفاوضية إدارية من شركات معروفة:
سيرجي برين (مؤسس غوغل) في مفاوضاته مع الحكومة الصينية:
عندما احتج مسؤولون صينيون بغضب على بعض سياسات غوغل، قابلهم برين بهدوء مطلق، دون تفاعل وجهي يُظهر امتعاضاً أو خوفاً، مما أدى إلى تهدئة اللقاء لاحقاً.
الرئيسة التنفيذية لشركة PepsiCo إندرا نويي في تفاوض مع وولمارت:
عندما انفعل ممثل وولمارت بحدة في نقاش حول أسعار التوزيع، التزمت نويي الصمت واحتفظت بوجه ساكن كلياً. بعد دقائق، بدأ الطرف الآخر يهدأ ويُعدل نبرته.
تحليل تطبيقي:
في اللحظات الحرجة من المفاوضات، يكون الانفعال أداة اختبار أو تهديد. فإذا قوبل بردّ فعلي، يتحول إلى تصعيد. أما إذا قوبل بوجه خالٍ من التفاعل:
ينكسر التصعيد.
يتشتت غضب الطرف الآخر لغياب رد فعل.
يشعر الطرف الآخر بعدم السيطرة، فيُعيد الحسابات.
التمثال الوجهي ليس ضعفاً، بل تقنية:
ترفع قيمتك التفاوضية.
تمنحك زمن تفكير.
تُربك المهاجم الذي لا يجد صدى لهجمته.
د. عماد فوزي شُعيبي