زيارة ترامب: بن سلمان “أعاد” صياغة العلاقة مع أميركا؟

بقلم عبادة اللدن

«اساس ميديا»

يعكس الوفد الاقتصادي المرافق للرئيس الأميركي دونالد ترامب في زيارته للسعوديّة التحوّلات التي طرأت على العلاقات بين البلدين في السنوات الأخيرة، من علاقة تقوم على النفط ومشتريات الأسلحة إلى شراكات استثمارية وماليّة في قطاعات استراتيجيّة وتكنولوجيّة حسّاسة.

قبل ساعات من وصول ترامب إلى الرياض، توالى وصول رؤساء أكبر البنوك وشركات التكنولوجيا الأميركية، ومنهم الرئيس التنفيذي لـ”بلاك روك” لاري فينك، ورئيسة “سيتي غروب” جين فرايزر، ورئيس “تسلا” إيلون ماسك، ورئيس “إنفيديا” جنسن هوانغ، وغيرهم كُثر. وفي الجانب الرسمي، كان وزير الخزانة الأميركي سكوت بسنت أوّل المتحدّثين في منتدى الاستثمار السعودي الأميركي الذي عُقد على هامش الزيارة، وتحدّث بعده في جلسة أخرى وزير التجارة هاوارد لوتنيك.

التّحوّل في طبيعة العلاقة

المعبِّر في هذا الحضور هو التمثيل المحدود لشركات النفط والطاقة، مقابل التمثيل العريض للبنوك وشركات التكنولوجيا والشركات الصناعية. وهذا يعكس التحوّل في نوعية العلاقات الاقتصادية والاستثمارية.

قامت العلاقات الاقتصادية بين السعودية والولايات المتّحدة منذ ثلاثينيات القرن الماضي على ثلاث ركائز: النفط ومشتريات الأسلحة والاستثمارات الماليّة السعودية في الولايات المتّحدة. وعكست تلك العلاقة نظرة استراتيجيّة من الملك المؤسّس عبدالعزيز آل سعود لبناء علاقة مع القوّة العالمية الصاعدة على حساب الإنكليز الذين كانوا يشكّلون القوّة المهيمنة عسكرياً واقتصادياً في المنطقة. وتجسّد ذلك بتأسيس شركة “أرامكو” التي تولّت تطوير حقول النفط السعودية، إلى أن أمّمتها الرياض على مراحل، كانت آخِرتها عام 1980.

شهدت تلك العلاقة تحوّلات عميقة في السنوات الماضية في ظلّ قيادة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورؤية 2030 التي أطلقها قبل تسع سنوات. وربّما النجاح الذي سيحفظه التاريخ طويلاً للأمير الشابّ أنّه أرسى أسساً استراتيجيّة جديدة لعلاقةٍ كانت قد بدأت عوارض الوهَن تظهر على ركائزها التقليدية. فالولايات المتّحدة اكتفت من نفطها الصخري اعتباراً من منتصف العقد الماضي، ولم تعد زبوناً مهمّاً للنفط الخليجي. وأدّى ذلك إلى بروز تنظيرات استراتيجيّة في واشنطن لتحوُّل التركيز شرقاً إلى التحدّي الصيني، مع ما يستتبعه ذلك من تقليص الاستثمار العسكري والأمنيّ في الشرق الأوسط.ما حدث على مدى ثماني سنوات في ولاية ترامب الأولى وولاية جو بايدن أن ّالسعودية نسجت مصالح جديدة مع الحكومة الأميركية، ومع قطاعات المال والأعمال والصناعات الحديثة. وتمّ التأسيس لهذا التحوُّل من خلال زيارتَي الأمير محمد بن سلمان لواشنطن عامَي 2016 و2018، وظهرت آثاره في الكثير من المحطّات، منها زيارة ترامب الأولى للمملكة عام 2017، ثمّ التحوّل الكبير في خطاب بايدن من عداء نافر للرياض خلال حملته الانتخابية عام 2020 إلى زيارة رسمية للمملكة مع جرعة مبالغٍ فيها من التودّد عام 2022.

استثمارات بـ50 مليار دولار

تكمن الصلابة في النموذج الجديد أنّه لم يعد يقتصر على العلاقة بين الحكومتين، بل يستند إلى قاعدة عريضة من قطاعات المال والأعمال المؤثّرة في صناعة القرار في واشنطن. يكفي أنّ العام الماضي وحده شهد ضخّ استثمارات أميركية مباشرة في السعودية بأكثر من 15 مليار دولار. وثمّة 28 مصنعاً بعشرات مليارات الدولارات لمستثمرين أميركيين بالشراكة مع مستثمرين سعوديين في المدن الصناعية ومناطق التقنيّة السعودية، من أبرزها شركة “صدارة” للكيميائيات في الجبيل بأكثر من 20 مليار دولار، ومصنع “السعودية للبوليمرات” بنحو ستّة مليارات دولار، ومصنع “كيميا” بأكثر من خمسة مليارات دولار.

في المقابل، بات صندوق الاستثمارات العامّة السعودي، الذي يقارب حجم أصوله 950 مليار دولار، قوّة مؤثّرة وصوتاً مسموعاً في وول ستريت، يحسب الجميع حساباً لتحرّكاته، خلافاً لما كان عليه الاستثمار السعودي “الصامت” (passive) في العقود الماضية.

الأهمّ هو نوعية الاستثمارات المباشرة وهيكلها. فمن الأمثلة دخول صندوق الاستثمارات السعودي مستثمراً في شركة “لوسِد” لصناعة السيّارات الكهربائية، ثمّ عقد شراكة معها لتأسيس مصنع للشركة الأميركية في السعودية. وعلى المنوال نفسه، عملت السعودية على توطين الكثير من محتوى عقود التسليح مع الشركات الأميركية، حتّى ارتفعت نسبة التوطين في الصناعات العسكرية من نحو 4% قبل رؤية 2030 إلى 20% العام الماضي. ويجري الحديث حاليّاً عن إمكان سماح واشنطن بتصدير الرقائق الأكثر تطوّراً في مجال الذكاء الاصطناعي لتمكين الشراكات التي تعقدها الشركات الأميركية الكبرى لإنشاء مراكز البيانات ومرافق البنية التحتية في السعودية. وقد يكون حضور رئيس شركة “إنفيديا” مع ترامب إشارة في هذا الاتّجاه.

قطاع الطّاقة

يبقى قطاع الطاقة محوراً أساسيّاً في العلاقات السعودية الأميركية. ولا يخفى أنّ ترامب كان أوّل رئيس أميركي يتعاون مع السعودية ومجموعة “أوبك +” لخفض إنتاج النفط لمواجهة تداعيات جائحة كورونا عام 2020. إلّا أنّ التعاون في هذا القطاع بات يتجاوز النفط ليطول الطاقة المتجدّدة والاستخدامات السلمية للطاقة النووية، والسعي المشترك إلى تطوير رؤية لزيادة الطلب على الهيدروجين النظيف في الأسواق العالمية.

تجد هذه التحوّلات في الاقتصاد صداها في السياسة، وتظهِّر صورة استراتيجيّة تبدو فيها السعودية ودول الخليج مركز الثقل الأساسي في السياسة الأميركية في المنطقة. وقد بدأ هذا التحوّل يثير قلقاً في إسرائيل، على حدّ ما تشير إليه صحيفة “وول ستريت جورنال”، انطلاقاً من إشارات متعدّدة، منها عدم وضع إسرائيل على خارطة جولة ترامب في المنطقة، ومنها أيضاً استثناء السعودية ودول الخليج من “الرسوم المتبادلة” التي فرضها ترامب، مقابل فرضها على إسرائيل بنسبة 17%، قبل أن يتمّ تعليقها لتسعين يوماً، ومنها اقتراب السياسة الأميركية من المنطق السعودي في مقاربة القضيّة الفلسطينية والوضع في غزّة.

من المبكر بناء استنتاجات كثيرة على تلك الإشارات، لكنّ ثمّة شعوراً واضحاً في إسرائيل بأنّ ترامب في ولايته الثانية يصوغ مصالح بلاده بمعزل عنها.

عبادة اللدن