بقلم اللواء الدكتور عبداللطيف بن محمد الحميدان
لم يكن إعلان حزب العمال الكردستاني انسحاب مقاتليه من الأراضي التركية إلى شمال العراق مجرد خبر عسكري عابر بل خطوة سياسية عميقة تكشف عن تحوّل في طبيعة الصراع الطويل بين الدولة التركية والأكراد فبعد أكثر من أربعة عقود من المواجهة المسلحة قرر الحزب أن يعيد تموضعه خارج الأراضي التركية في ما يبدو أنه استجابة عملية لدعوة زعيمه المعتقل عبد الله أوجلان إلى إنهاء العمل المسلح وفتح الطريق أمام حل سياسي شامل.
ومع أن الحكومة التركية رحبت بحذر بهذه الخطوة فإنها لا تزال تنظر إليها بعين الريبة مدركة أن الانسحاب لا يعني بالضرورة نهاية التهديد وأن جبال قنديل في شمال العراق يمكن أن تتحول مرة أخرى إلى منصة ضغط متى ما تعثرت المفاوضات أو تباطأت الإصلاحات الموعودة.
علما أنّ توقيت الانسحاب جاء في لحظة تركية حساسة إذ تعيش البلاد حالة من التوتر السياسي الداخلي والتحديات الاقتصادية فيما تبدو الحكومة حريصة على تهدئة الجبهات المفتوحة دون تقديم تنازلات تُفهم على أنها ضعف.
أما الحزب فحاول أن يقدّم هذه الخطوة على أنها بادرة حسن نية لكنها أيضاً ورقة اختبار لأنقرة (هل سترد على الانسحاب بإجراءات تشريعية تمنح الأكراد حقوقاً ثقافية وسياسية طال انتظارها أم ستكتفي باعتبار الانسحاب انتصاراً عسكرياً مؤقتاً؟) وبين الحسابين تبقى الأرض السياسية هشة ويظل السلام رهناً بثقة متبادلة لم تتكوّن بعد بشكل راسخ.
في جوهر المسألة يبرز اسم عبد الله أوجلان الذي لم يغب عن المشهد رغم سجنه الانفرادي في جزيرة إمرالي منذ عام 1999م الرجل الذي كان رمزاً للتمرد بات اليوم في نظر كثيرين مفتاحاً محتملاً للسلام فالدعوات المتزايدة إلى إطلاق سراحه أو تحسين ظروف احتجازه لا تعكس فقط تعاطفاً إنسانياً بل إقراراً غير معلن بأن أي تسوية حقيقية للصراع لا يمكن أن تتم من دون صوته فالحزب نفسه يعتبر أن الإفراج عن زعيمه يمثل الضمانة الوحيدة لإنهاء السلاح نهائياً بينما ترى أنقرة أن ذلك قد يُفسَّر كرضوخ للابتزاز السياسي.
ومع ذلك يلوح في الأفق تصورٌ وسطي يقوم على تدرج في الخطوات يبدأ بتحسين ظروف احتجازه والسماح له بالتواصل مع وفود برلمانية وصولاً إلى تسوية قانونية مشروطة إذا استمر الهدوء الميداني.
كما أن التحرك نحو شمال العراق يثير أيضاً أسئلة إقليمية معقدة فتركيا التي تسعى إلى تثبيت أمنها الداخلي قد تجد نفسها مضطرة لمواصلة عملياتها العسكرية عبر الحدود ما يضعها في مواجهة دبلوماسية مع بغداد وأربيل اللتين ترفضان التوغلات المتكررة داخل أراضيهما.
كما أن أي تهدئة تركية كردية سيكون لها صدى في شمال سوريا حيث تنتشر فصائل كردية مرتبطة أيديولوجياً بحزب العمال الكردستاني ما يجعل مستقبل الملف السوري جزءاً من المعادلة الأوسع.
بهذا المعنى لا يمكن قراءة الانسحاب بمعزل عن المشهد الإقليمي كله الذي يعيد ترتيب خرائط النفوذ والتحالفات في ظل تراجع الحروب التقليدية وصعود منطق التسويات المتبادلة.
لكن رغم كل هذه المؤشرات الإيجابية يبقى الطريق إلى السلام محفوفاً بالمخاطر فثمة قوى داخلية في تركيا ترى في أن أي تقارب مع الحزب خيانةً لدماء الجنود الذين سقطوا في المعارك وثمة داخل الحزب من يعتبر أن أنقرة لا تنوي تقديم أي تنازل حقيقي كما أن أي حادث أمني أو تفجير يمكن أن يقلب المزاج العام ويعيد الجميع إلى نقطة الصفر تماماً كما حدث في تجارب سابقة حين انهارت مفاوضات السلام تحت ضغط الرأي العام والدماء المسفوكة.
لذلك فإن مستقبل العملية يتوقف على قدرة الطرفين على الصمود أمام الاستفزازات وعلى استعداد الحكومة لتحويل الوعود إلى تشريعات فعلية تفتح الباب أمام مشاركة الأكراد في الحياة السياسية دون وصم أو إقصاء.
لإن ما يحدث اليوم ليس نهاية الصراع بقدر ما هو اختبار لنضج الطرفين. فالحزب الكردي يبدو وكأنه يريد الخروج من عباءة الحرب إلى أفق السياسة والدولة التركية تبدو راغبة في إغلاق ملف أمني مزمن أرهقها داخلياً وخارجياً غير أن الفجوة بين النوايا والواقع ما تزال واسعة والحديث عن (تركيا جديدة) لا يمكن أن يتحقق إلا إذا جرى الاعتراف بالأكراد كمكوّن أصيل لا كقضية أمنية لان التجربة أثبتت أن القمع لا يُخمد الهوية وأن السلاح لا يصنع وطناً متماسكاً وأن السلام الحقيقي لا يفرض من طرف واحد في كل الاحداث التي جرت في العالم.
قد يكون عبد الله أوجلان اليوم خلف القضبان لكنه ما زال حاضراً في معادلة السلطة والشارع على حد سواء وصوته وإن خفت لا يزال قادراً على التأثير في مجرى الأحداث وإذا كان انسحاب المقاتلين خطوة في اتجاه السلام فإن إطلاق أوجلان ولو مشروطاً سيكون الاختبار الأعمق لجدية الدولة في إنهاء الصراع حينها فقط يمكن القول إن تركيا بدأت فعلاً تكتب فصلاً جديداً في تاريخها فصلاً يتجاوز منطق الحرب والانقسام إلى منطق التعايش والاعتراف المتبادل وحتى يتحقق ذلك سيظل الانسحاب خطوة أولى في طريق طويل بين سجن أوجلان وحدود الدولة وبين ذاكرة الدم وطموح المستقبل.
اللواء الدكتور عبداللطيف
بن محمد الحميدان