سوريا: رفع العقوبات من الدّاخل قبل الخارج

بقلم أمين قمورية
«أساس ميديا»
تواصل واشنطن منح سوريا الجديدة الفرصة تلو الأخرى. شرعت أخيراً في اتّخاذ الخطوات لرفعها كليّاً عن قائمة “الدول الراعية للإرهاب”، استكمالاً لقرار الرئيس دونالد ترامب رفع العقوبات عنها.
كانت سوريا من أوائل البلدان التي صُنّفت على أوّل قائمة أميركية للدول الراعية للإرهاب عام 1979، أي منذ 46 سنة. سبقت بذلك كلّاً من إيران المصنّفة منذ 1984، وكوريا الشمالية المصنّفة في 2017، وكوبا التي ضمّها ترامب للتصنيف في ولايته الأولى عام 2021، ثمّ حذفها الرئيس جو بايدن في كانون الثاني الماضي، غير أنّ ترامب ألغى قرار جو بايدن، وأعادها للتصنيف مرّة أخرى.
يمكن لوزارة الخارجية الأميركية أن تقدّم إشعاراً للكونغرس الأميركي لإبلاغه برفع سوريا من قائمة الدول الراعية للإرهاب، والأسباب التي دعت إلى ذلك، وإذا لم يعارض الكونغرس رسميّاً في مهلة مدّتها 45 يوماً، يجري شطبها من القائمة. واذا ما حصل ذلك تكون دمشق قطعت فعلاً شوطاً كبيراً في التخلّص من العوائق والقيود التي فُرضت عليها في عهد النظام المخلوع وأرهقت الشعب السوري طوال سنوات، ووُضعت على سكّة التعافي الاقتصادي، وبدأت مسار التحوّل نحو مستقبل أفضل.
ترافقت خطوات رفع العقوبات الأميركية مع خطوات أوروبية مماثلة، لا تقلّ إيجابية، ومن شأنها المساهمة في رفع معاناة السوريين والانطلاق في ورشة إعادة إعمار ما دمّرته الحرب والسياسات الخاطئة طوال عقود من الزمن. وعلى ما يبدو فإنّ هذه الإيجابيّات لم تقتصر على الشأنين الاقتصادي والاستثماري بل تعدّتهما إلى الشأنين الأمنيّ والسياسيّ. إذ لاحظت صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ تقارب ترامب مع القيادة السورية الجديدة تسبّب في إرباك الاستراتيجية العسكرية لإسرائيل، وأدّى إلى توقّف شبه كامل للغارات الجوّية الإسرائيلية على الأراضي السوريّة.
الاستقرار الدّاخليّ والبيئة المناسبة للاستثمار
يشكّل رفع العقوبات الغربية عن سوريا عاملاً حاسماً في إخراجها من عنق الزجاجة. لكنّ ذلك وحده ليس كافياً لإحداث التحوّل الكبير في بلد نكبته الحروب والصراعات الدامية والديكتاتورية. التأثيرات الخارجية عوامل مهمّة تساعد في التغيير وتكون رافعة له، لكنّها لا تحدِثه ولا تضمنه.
يبقى العنصر الأهمّ العوامل الداخلية والتسيير والإدارة الذاتيَّين. لن تقدِم الدول العربية والأجنبية والشركات الكبرى ورجال الأعمال الكبار على الاستثمار والتوظيف في سوريا، ما لم توفّر السلطة السوريّة الجديدة بيئةً مناسبةً للاستثمار تبدأ باستقرار سياسي وضمانات ماليّة للمستثمرين، وتمرّ بتحرير سعر صرف العملة الوطنية وسنّ قوانين مشجّعة للاستثمار والضرائب واستقلالية القضاء، وصولاً إلى ضمانات لتحويل الأموال ونظام مصرفي حديث وشفّاف يحظى بالثقة.
لا ينفصل الاقتصاد عن السياسة. الاثنان يحتاجان إلى استقرار داخليّ واندماج وطنيّ بين مكوّنات المجتمع السوري. وينبثق تحقيق الاستقرار من اعتماد سياسات داخلية تنال الرضى المجتمعيّ على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وتكون أساساً لعقد اجتماعي وطني متّفق عليه وترضى به غالبيّة الشرائح والمكوّنات. ذلك أنّ السياسات القائمة على الغلبة أو الإرادة الناقصة لا تحقّق استقراراً مستداماً ومن شأنها زرع ألغام في المجتمع والدولة السوريَّين تنعكس سلباً على الوحدة الوطنية وتشرّع الأبواب والنوافذ السوريّة أمام رياح التدخّلات الخارجية الطامعة بالنفوذ والمكاسب والموارد والموقع الجيوسياسيّ.
“التّحقيق المستمرّ” بدل “الثّقة المسبقة”
لن تُرفع العقوبات فوراً. تلك المفروضة بموجب “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا” لعام 2019، وهي الأشدّ ضرراً على السوريّين، لا يمكن رفعها من دون تشريع صادر عن الكونغرس. لكن يمكن لإدارة ترامب تعليق تنفيذها مؤقّتاً كما فعلت، وأمّا إلغاؤها نهائيّاً فسيستغرق وقتاً طويلاً. لن تفرّط واشنطن بنفوذها في بلاد الشام. اختارت نهج “التحقيق المستمرّ” بدلاً من “الثقة المسبقة”. من أجل ذلك تحتفظ بورقتين: إمكان تفعيل العقوبات مجدّداً والإبقاء على وجود عسكري أميركي محدود على الأرض.
هكذا يستدعي الرفع الكامل للعقوبات من السلطة السورية الجديدة تنفيذ سلسلة من المطالب الحسّاسة أو تقديم إجابات مقنعة كي تضمن عدم العودة إلى فرضها مجدّداً. هذا يستدعي منها تبنّي سياسة شفّافة لتوفير الاستقرار السياسي والإجماع الوطني على الخيارات السياسية والاقتصادية. فإمّا تتّخذ مواقف تتعارض مع وجهة نظر واشنطن والغرب، فتعود العقوبات على نحو أشدّ، وإمّا تذهب إلى خيارات تناقض الإجماع الوطني فيقع المحظور الداخلي والانقسام الأهليّ.
يتعلّق هذا الأمر خصوصاً بمطلب التطبيع مع إسرائيل الذي تصرّ عليه الإدارة الأميركية. يصعب السير في هذا المطلب من دون ربطه باستعادة الجولان والأراضي السورية المحتلّة، وقد يرتّب تجاهل الربط بين الاثنين على الإدارة السورية أعباء سياسية جمّة.
سوريا الجديدة التي ورثت تركة ثقيلة: دولةً منهارة، وخراباً عظيماً، ومجتمعاً جريحاً، ومؤسّساتٍ مترهّلة، وسكّاناً تسعون في المئة منهم يعيشون تحت خطّ الفقر، هي في أشدّ الحاجة إلى رفع العقوبات رأفةً بناسها وتوفيراً للقمة عيشهم وللحدّ الأدنى من مقوّمات حياتهم، والعودة إلى دولة طبيعية. لكنّ الخشية أن تتحوّل هذه الحاجة الماسّة إلى حجّة وذريعة لضبط الناس والمجتمع عبر توفير الأمن والغذاء وإغلاق باب الحرّيات العامّة والخاصّة وكبح الأصوات المعارضة، والتغاضي عن الإصلاح السياسي، واستئثار فئة دون غيرها بالحكم والسياسة والتحكّم بمصير البلاد والعباد.
أمين قمورية