بقلم إيمان شمص
«أساس ميديا»
الجمهورية الإسلامية أضعف وأكثر عزلة ممّا كانت عليه، لكنّها لم تُهزم بعد. وقد تزيد الرغبة في الانتقام دوافع طهران العنيفة والمُزعزعة للاستقرار في المنطقة، وتطفئ أيّ شكوك باقية في جدوى الردع النووي.
لذا ترى سوزان مالوني، المستشارة السابقة في وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية في إدارة باراك أوباما، وقبلها في إدارة جورج دبليو بوش، أنّ من الضروري إيجاد مسار دبلوماسي يُعيد فرض الشفافيّة على مشروع إيران النوويّ، ويُمهّد الطريق للهروب من العاصفة التصعيديّة التي تلوح في الأفق تحت الهدوء الهشّ الذي أعقب الحرب الأخيرة بينها وبين إسرائيل.
تعتقد مالوني أنّ لجوء إسرائيل والولايات المتّحدة إلى القوّة العسكرية قد سرّع النتيجة التي كانتا تسعيان إلى منعها: نظام ديني إسلامي أكثر قمعاً وعدوانيّةً ورغبةً في تصفية حسابات في محيطه. فإيران حتّى في حالتها الهشّة اليوم ستظلّ طرفاً خطيراً ومصدراً قويّاً لعدم الاستقرار وعدم اليقين في المنطقة.
قد تصبح سياسة “التأمين النوويّ” أكثر جاذبيّة لها. وتضاعف رهانها النووي من خلال محاولة إنقاذ الحطام وإطلاق جهد شامل للحصول على سلاح، لكن بهدوء أكبر هذه المرّة ومن دون أيّ رقابة رسمية، وفي انتهاكٍ لالتزاماتها الرسمية المستمرّة بموجب معاهدة حظر الانتشار النووي. وبعدما اعتمدت في الماضي على الحذر والشفافيّة لحماية استثماراتها النووية، وبالتالي بقاء نظامها، قلبت هجمات حزيران الموازين، وقد تكون طهران مستعدّة لتحمّل مخاطر أكبر للحفاظ على خياراتها النووية وضمان بقاء مساعيها سرّيّة. ويعزّز هذا التحوُّل تآكل الدفاع الأماميّ الذي كانت توفّره شبكة وكلاء إيران. ومع نجاح إسرائيل في تحييد “الحزب” وإسقاط حليف إيران في سوريا، قد يخلص القادة الإيرانيون إلى أنّ الخيار النوويّ هو خيارهم الوحيد.
بدلاً من إسقاط النظام الحالي أو تعطيله، يبدو، كما ترى مالوني، أنّ الضربات الإسرائيلية قد أحيت ارتباط الإيرانيين الراسخ بوطنهم على الرغم من خيبة العديد من الإيرانيين من النظام. ويترك غياب أيّ حركة سياسية أو شخصيّة كاريزميّة لتحريك معارضة غير ناضجة النظامَ الحالي الخيارَ الوحيد المتاح. وقد عزّزت الجولة الأخيرة من الهجمات العلاقة التكافليّة بين هيكل السلطة الدينية في النظام والجيش. وكان عملهما معاً في إدارة الحرب وعدم اليقين الذي أعقبها إشارة إلى معارضي النظام الداخليين والخارجيين بأنّ النظام سيصمد تحت الضغط وسيمنع أيّ منافسين، بل قد يُضعف من احتمالات حدوث تغييرات سياسية كبيرة بعد وفاة خامنئي.
عقبات هجوم جديد
تعتقد مالوني أنّ إسرائيل، على عكس ترامب، لا تتوهّم أنّ البرنامج النووي الإيراني قد “قُضي عليه”، بل تتوقّع أن تسعى طهران إلى إعادة بناء قدراتها، وهي مستعدّة لمواصلة الحملة لضمان عدم نجاحها. قد تدفع السهولة النسبيّة التي حقّقت بها إسرائيل أهدافها في حزيران إلى الشروع في عملية شبه مستمرّة لـ”جزّ العشب”، تهدف إلى إضعاف قدرات خصومها، كما فعلت ولا تزال تفعل إسرائيل منذ سنوات عديدة في لبنان وسوريا.
لكن في رأي مالوني أنّ “احتمال شنّ حملة عسكرية طويلة الأمد لإضعاف القدرات النووية الإيرانية سيواجه عقبات كبيرة، لا سيما في ما يتعلّق بأيّ دور أميركي. فقد تشكّك ترامب في جدوى الانخراط في عمليّات عسكرية طويلة الأمد في الشرق الأوسط. ويُدرك الإسرائيليون قيود قدرتهم على متابعة نجاحهم العسكري، لا سيما التكلفة العالية ومحدودية صواريخ الاعتراض الضرورية للدفاع الذي كان في أساس حسابات واشنطن في المطالبة بوقف إطلاق النار بعد 12 يوماً فقط، فإطالة أمد الصراع الإسرائيلي الإيراني تهدّد تصميم إدارة ترامب على التركيز على الدفاع عن المصالح الأميركية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في مواجهة جيش صيني متزايد الحزم”.
من جهتهم، يرى جيران طهران في العمل العسكري المستمرّ ضدّ إيران مخاطر جمّة من عدم الاستقرار والتصعيد. وفي إطار عزمهم على مواصلة تحويل اقتصاداتهم ومجتمعاتهم إلى مراكز عالمية للتكنولوجيا والسياحة والتجارة، سعى السعوديّون وقادة الخليج الآخرون في السنوات الأخيرة إلى استمالة طهران بدلاً من مواجهتها، مُقدّرين أنّ استبعادها من النظام الإقليمي لن يؤدّي إلّا إلى المزيد من الممارسات العدائية. وقد عزّزت الضربات الإسرائيلية والأميركية للبرنامج النووي الإيراني هذا التوجّه. لا تستمدّ دول الخليج شعوراً كبيراً بالأمن من وجود عملاق جريح على حدودها. ويُنذر تبنّي إسرائيل لسياسة استباقية عدوانيّة في جميع أنحاء المنطقة بمزيد من الاضطراب للخطط الاقتصادية الطموحة لقادة هذه الدول. وقد تفاقمت هذه المخاوف بعد الهجوم الإسرائيلي على دمشق التي ترى دول الخليج وإدارة ترامب فيها ركيزةً محتملةً لنظام أمنيّ إقليمي قائم على السيادة العربية.
من جانبها، تستثمر تركيا بكثافة، استراتيجيّاً واقتصاديّاً، في الحكومة الجديدة في دمشق، وترى أنّ تصرّفات إسرائيل في سوريا مُزعزعة للاستقرار عمداً. وقد يؤدّي تصاعد العنف الطائفي في سوريا، إلى جانب جهود إسرائيل لتقويض الحكومة الجديدة، إلى إشعال منافسة جديدة وربّما أكثر خطورة بين إسرائيل وتركيا، وتوفّر لطهران فرصة لإحياء نفوذها في سوريا وتفعيل شبكة الميليشيات التابعة لها عبر الحدود.
الدبلوماسيّة وتغيير السّرديّة
تستبعد مالوني أن تتولّى واشنطن المسؤولية الكاملة لإدارة التوازن الهشّ الجديد للقوى في الشرق الأوسط الذي أوجده تآكل القوّة الإيرانية. وفي رأيها أنّ الخيار الدبلوماسي هو الوحيد المتاح، وأنّ ترامب يبدو على استعداد للنظر في علاقات دبلوماسية واقتصادية أكثر مرونة مع طهران. وحتّى لو رُفض هذا العرض، فإنّ تقديمه قد يُتيح فرصة قويّة لتسليط الضوء على الفجوة بين طموحات القيادة الإيرانية الحاليّة وتطلّعات مواطنيها.
تكتب في عدد مجلّة “فورين أفيرز” لشهرَي أيلول وتشرين الأوّل 2025: الدبلوماسية ليست حلّاً في حدّ ذاتها، لكنّ جهداً متضافراً لجذب طهران إلى حوار هادف في مستقبل برنامجها النووي يساعد في كسب الوقت، ويوسّع الانقسامات الحتميّة داخل النظام الإيراني، ويعزّز الشفافيّة حول المنشآت والأنظمة التي قد تؤدّي إلى صنع السلاح النووي. يتطلّب منع القنبلة الإيرانية أكثر من مجموعة أهداف قويّة. ولا يمكن إخضاع نظام ثوريّ بالقوّة إلى الأبد. ليس لدى القادة الإيرانيين ما يدعوهم للثقة بالحوافز الأميركية للحوار، لكنّ ترامب قد يتمكّن من استغلال ازدرائه للسياسة كعادته لتغيير السرديّة. إنّ استعداده للتدخّل نيابةً عن العملية العسكرية الإسرائيلية في إيران يمنحه صدقيّة فريدة ومساحة للمناورة.
في رأيها يمكن للعديد من المقترحات المُعلنة، مثل إنشاء اتّحاد إقليمي لتخصيب اليورانيوم خارج الأراضي الإيرانية، بالإضافة إلى الاستثمار الأجنبي في منشآت الطاقة النووية المدنية، أن تُوفّر مخرجاً من هذا المأزق، خاصّةً إذا اقترنت بتخفيف العقوبات. ويتطلّب أيّ اتّفاق فرض قيود على تطوير الصواريخ الإيرانية، والسماح للمفتّشين بالوصول دون قيود للتحقّق من التزام إيران. ويجب على ترامب لتعزيز صدقيّة أيّ مقترحات، مواصلة تأكيد رغبته في رؤية مستقبل أكثر إشراقاً لإيران وعلاقة مختلفة بين البلدين. وحتّى لو لم ينجح، فإنّ دعوة الولايات المتّحدة إلى إقامة علاقة دبلوماسية واقتصادية جديدة مع طهران قد تزرع بذور انقسام استراتيجي للنظام في وقت الأزمات.
تحذّر مالوني أخيراً من انجرار واشنطن إلى اللامبالاة في ظلّ تراجع القوّة والنفوذ الإيرانيَّين، ومع هيمنة تحدّيات صعود الصين وروسيا على أجندة الأمن القومي الأميركي. فالعالم يقف على شفا حقبة خطيرة من الانتشار النووي تُنذر بتوسيع نطاق المخاطر الكارثيّة. ومن الضروريّ إيجاد مسار دبلوماسي يُعيد فرض الشفافيّة على المشروع النووي الإيراني، ويُمهّد الطريق للهروب من العاصفة التصعيدية التي تلوح في الأفق تحت الهدوء الهشّ الذي أعقب الحرب الأخيرة.
إيمان شمص