تغرق ذاكرتنا اللبنانية الوطنية في ذكريات الألم أكثر من مواعيد وأعياد الفرح، لأننا أمام روزنامة يطغى السواد والحزن على بياضها والفرح. فالأيام الجميلة والليالي الملاح لم يعد لها مكان، جرّاء ما تراكمت أسماء الشهداء من رؤساء وزعماء وقيادات، قد يضيق المكان في تعدادهم. فلقد تفوقت مرحلة الوصاية السورية على وطننا الصغير المعذّب في أنها لم تترك بيتاً لم يلفه السواد، وعيناً لم تدمع… سيان أكان التنفيذ بأيدي الوصاية وأدواتها مباشرة أم بأيدي الشر اللبنانية المجرمة من أصحاب الأجندات الخارجية.
لا يحتاج هذا الكلام الى شرح وتفسير، وإن كانت صفحة الروزنامة السوداء، هذه المرة، مرتبطة بذكرى استشهاد المغفور له الرئيس رشيد كرامي، الذي أقل ما يُقال فيه وعنه إنه كان واحداً من أبرز رجال الدولة الذين تولوا المسؤوليات الوطنية العليا العامة في وطننا، فشرّفوها بامتياز.
كان الرشيد أصغر رؤساء الحكومات سناً في تاريخ لبنان. وهو بقي، حتى ارتقائه شهيداً، يذكر بالخير الرئيس الراحل المرحوم كميل شمعون الذي عينه على رأس الحكومة في الثلاثينات من عمره، وكم استمعنا إليه يقول، بالرغم من الخلاف السياسي مع شمعون: إنني لن أنساها وسأظل أحفظها لفخامته.
والكلام على الشهيد رشيد كرامي يطول. فهل نتحدث عنه زعيماً وطنياً تجاوزت زعامته حدود الوطن الصغير الى ما بعد الحدود وحتى الباكستان على سبيل المثال لا الحصر؟
أو نتحدث عنه وزيراً للمال (وهو كان يحتفظ بهذه الحقيبة أحياناً الى جانب رئاسة الوزراء) يمكن الجزم بأنه لم ينفق قرشاً واحداً إلّا في اتجاه الضرورة والخير العام؟
أو نذكره رئيساً للحكومة، يستمع الى مناقشات جلسة الثقة التي تمتد أياماً ثلاثة ثم يختمها بمداخلة طويلة يرد فيها على ملاحظات الأربعين او الخمسين نائباً الذين تكلموا وانتقدوا أو أيّدوا، فيتناول كلامهم فقرة فقرة، كي لا نقول كلمة كلمة، من دون أن يكون قد سجّل أي كلمة أو ملاحظة، ومن دون أن يكون يقرأ، فقط تتوالى كلماته بسلاسة ودقة وهو يتحدث عن ظاهر قلب.
لا يتسع المجال لطويل الكلام على هذه القامة الوطنية العملاقة التي طبعت لبنان بطابعها مع زملائها أصحاب القامات الوطنية العملاقة الذين كان لنا الحظ في أننا عايشناهم، ونبكيهم اليوم كأنهم غادرونا الى دنيا الحق في الأمس القريب لشدة تأثيرهم في وعينا، وأيضاً لما نشاهده في الزمن اللبناني الرديء.
فقط كلمة أخيرة: إغتالوا الرشيد لأنه كان توصل والرئيس كميل شمعون الى توافقٍ على وثيقة الـ 14 بنداً، التي كان من شأن إقرارها حل الأزمة اللبنانية وإنهاء الحرب. علماً أن شمعون نفسه نجا، في تلك المرحلة، من محاولة اغتيال.